أتحدث هنا عن ظاهرة باتت تنتشر بشكل «غير صحي»، على الرغم من أنها تكشف أموراً أخرى «أخطر» وذات وقع أشد.
هي ظاهرة ينطبق عليها القول بأن «في كل شر خير موجود»، أي أنك حتى في الكوارث لربما تجد بارقة أمل أو بصيص نور، أو علها تكون «منعطف طريق» بعدها يتم التصحيح وتعديل المسارات. حديثنا اليوم عن مفهوم «الولاء المؤسسي» لدى غالبية الموظفين، بغض النظر إن كانوا في القطاع العام أو في نظيره الخاص.
ومن منظور أشمل، فإن كلمة الولاء بالنسبة لنا كدول مسلمة عربية خليجية تتركز بشكل أكبر على العوامل التي لها ارتباط بالدين والأرض والأنظمة الحاكمة، بخلاف المجتمعات الغربية التي قد لا يبنى الولاء فيها على هذه العوامل، بقدر ما يكون الولاء للقيم والمثل والأخلاقيات، ويضاف إليها حزمة الحقوق الفردية التي تقابلها الواجبات، باعتبار أن الأنظمة تتغير، والأعراق تتداخل في تلك المجتمعات، والتكتلات مبنية على منافع ومصالح مشتركة.
ومن منطلق هذا المفهوم، تتفرع أنواع الولاء وتتنوع، منها الولاء للعائلة، الولاء للمجتمع، وعلى الصعيد المهني الولاء للمؤسسة، وهو حديثنا اليوم.
أقول إن هناك نوعاً من «الخلط» في فهم المفهوم، فالبعض يظن أن الولاء المؤسسي يجب أن يقوم على إبداء الولاء والطاعة للمسؤول، بدلاً من أن يكون ولاءً مرتبطاً بقيم المؤسسة ورؤيتها وفلسفتها وأهدافها، وكل هذه الأمور يتوجب أن تكون مرتبطة ومتدرجة أصلاً من القيم والفلسفة والأهداف الخاصة بالدولة.
ولأن الفهم خاطئ لدى البعض، فإنه يظن أن التجاوزات التي تحصل في قطاعه توجب عليه التعامل معها بأسلوب «غض النظر» وأسلوب «السكوت» أو الأخطر «الإخفاء» و«التورية» وذلك حتى لا يتجاوز محددات الولاء المؤسسي. وهذا فهم خاطئ تماماً.
فالولاء المؤسسي لا يعني بأي حال من الأحوال القبول بانحراف الأداء، أو ضياع تحقق الأهداف بسبب أساليب إدارية خاطئة، أو بسبب تصرفات شخصية لأصحاب القرار تأتي على حساب المصلحة العامة، وتأتي لتحول المكان لملك خاص بدل أن يكون قطاعاً تملكه الدولة ويتوجب أن يخدمها ويخدم المواطنين.
لكن معالجة هذه المسألة بحد ذاتها توقع أفراداً آخرين في تصرفات هي أيضاً تضرب في مفهوم الولاء المؤسسي وتكسر أعرافه.
هنا لنوضح، بأن طريقة التعامل مع الأخطاء في أي مؤسسة لابد أن يمر بقنوات، وفي البداية على الشخص أن يتذكر أن هناك قوانين ولوائح منظمة، وعلى رأسها تأتي الأمور المعنية بـ «سرية» المعلومات، وعدم الإفصاح عن الشؤون الداخلية في المؤسسة، والتي لا تهم العامة بقدر ما تشغلهم وتدفع للقيل والقال بنفس تأثير «الإشاعات» حينما تصدر، وبالتالي هي تضر ولا تفيد، وقد تشوه صورة هذا القطاع، أو تكون عاملاً لإثارة ردود فعل تجعل الهدف ينحرف من المسألة، فبدلاً من القيام بعملية الإصلاح تكون هناك عمليات للتورية والرد والنفي، ومن ثم محاولة الانتقام من الأشخاص.
ليست دعوة للخوف أو التوجس من قول الحق والتحدث عن الأخطاء، لكنها دعوة لفهم مفهوم الولاء المؤسسي أولاً، وإدراك ماهية الأنظمة واللوائح حتى يأمن الناس على حقوقهم. وعليه مواجهة الأخطاء في أي قطاع لابد أن تمر بآلية وبقنوات، لابد من التعامل معها بواقع مسؤولية لحلها أولاً في الداخل، وأن تتحول لقضايا تطرح على طاولة النقاش في اجتماعات الإدارة العليا، لا سعياً للبحث عن «كبش فداء» للومه والسلام، بل سعياً أولاً للبحث عن حلول لها، وبعدها ترسيخ مبدأ المحاسبة بهدف عدم تكرار مثل هذه الأمور وتصحيحها. وطبعاً التدرج واضح ومفهوم في أساليب المساءلة والمحاسبة بحسب ما تنص عليه لوائح وأنظمة الخدمة المدنية. الدافع لهذا القول ما نرصده من قبل الشارع من «إفشاء» لبعض الأمور المعنية بقطاعاتهم، من «نشر الغسيل» الداخلي على الملأ، سواء أكانوا معنيين بمعرفته أو لا، وبأسلوب غير علمي قائم على المثل القائل «اللي ما يشتري يتفرج». هذا أسلوب غير سليم، فالأمانة التي تحملها في قطاعك تعني أولاً أنك «أمين» على ما يدور فيه، مسؤول عن التصحيح في الداخل، وبذل الجهد تلو الجهد حتى تحمي «سمعته» وحتى «تصحح مساره» بطريقة لا «تضعف ثقة الناس فيه».
وهنا على المسؤولين أن ينتبهوا لأهمية هذا المفهوم، وأن يستوعبوا أن «الولاء المؤسسي» تعزيزه قائم أولاً على طريقة المسؤول في الإدارة، وعمله مع البشر والموظفين بطريقة تشاركية ومنفتحة، والأهم أن يكون هو المثال الأول الدافع للموظف بأن يحب عمله ويحب قطاعه ويخلص في العمل لتحقيق أهدافه ورؤيته، ويكون هو المدافع عنه، لا المدافع الأعمى عن الأخطاء التي تطفو على السطح، بل المدافع عن دور المؤسسة ورؤيتها إن عملت في الاتجاه الصحيح.
لو كنت رب عمل وأردت توظيف شخص ما، أول ما سأرصده هو حديثه عن قطاعه السابق، وبغض النظر إن كان حديثه مبنياً على ظلم بين وقع عليه، أو «مبالغة» أو «تضخيم» يورده ليجعل صفحته «بيضاء»، إلا أن ما سيهم في الموضوع هو مدى استيعابه لمفهوم «الولاء المؤسسي»، إذ ضياع المفهوم قد يحوله لعنصر «سلبي» بدلاً من التمثل بالدور الإيجابي المطلوب.
أدرك أن هذا الحديث «نسبي» وفيه أخذ ورد، ولكن لنقيسها ببساطة على المنزل والعائلة، هل يحبذ أحدكم أن تكون مشاكله وأموره الداخلية مادة عامة يتحدث فيها الناس، بالأخص من لا علاقة لهم؟!