يمكنك أن ترسم سيناريو للمشاهد التي يكون عليها العالم أثناء وبعد كل عملية إرهابية في أوروبا خصوصاً، والغرب عموماً. نقل مباشر للمنطقة أو المناطق التي تقع فيها العملية، أو العمليات، يتضمن تحركات الشرطة ورجال الجيش لتأمين مسرح الأحداث، وأصوات سيارات الإسعاف تتعالى وأناس يفرون من المكان، بكاء وصراخ ثم لقطات قصيرة من «كليبات» صوّرها شهود عيان لأحد الجناة أو أكثر، ثم بيان سريع وقصير للرئيس الأمريكي باراك أوباما يعبر فيه عن تضامنه مع شعب الدولة التي وقعت فيها الكارثة، مع عبارات تشير إلى قناعته بأن الجناة وأمثالهم «يحقدون على الطريقة التي يعيش عليها المواطن الغربي والحرية التي يتمتع بها».
بعدها يطل على الشاشات مسؤول أمني ليتحدث عن العملية وجهود الأجهزة في التعامل معها. وبالطبع سينفجر في وجهك أنبوب ضخم يخرج منه عدد غير قليل من الخبراء والمحللين والاستراتيجيين ليتوقعوا الجهة المنفذة، وتجلجل حناجرهم بنصائح للأسلوب الأمثل للتعامل مع معضلة الإرهاب، على رغم أن معظمهم كانوا أصلاً مسؤولين أمنيين لم يفعلوا شيئاً قبل أن يتقاعدوا ويصبحوا نجوماً يطلون على الناس مع كل كارثة، أو ربما كانوا أحد أسباب استفحال الإرهاب!
كان هذا هو المشهد مساء الجمعة الماضي، وامتد لساعات والناس يترقبون القبض على ثلاثة أشخاص قيل إنهم هاجموا مركزاً تجارياً ومحطة لمترو الأنفاق في مدينة ميونخ الألمانية، ثم ظهر بعدها أن الجاني واحد فقط، وأن كل كلام المحللين الاستراتيجيين في الهواء. ولا فارق إن كان الجاني الذي قيل إنه مختل عقلياً وانتحر، ينتمي إلى تنظيم إرهابي، أو أقدم على فعلته لدوافع شخصية ومن دون تنسيق مع أي طرف، أو حتى ينتمي إلى «داعش» كحال زميله الذي هاجم ركاب قطار قبلها بأيام ممسكاً بفأس وجرح عدداً منهم، فالواقعة جعلت تعبير «الفوضي الخلاقة» الذي عرفه الناس أثناء حكم المحافظين للبيت الأبيض في فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، معبراً عن حال الإرهاب في العالم الآن. ومثلما شاهدنا الفوضى تتحقق في مجتمعات عربية بفعل «الربيع العربي» ثم انتقلت إلى مدن أوروبية وأمريكية، على خلفية احتجاجات لأسباب مختلفة، جاء الدور لنتابع فوضى الإرهاب في الغرب بالتوازي مع فوضاه في المجتمعات العربية.
المشاهد التي تابعها الناس من ميونخ لا تختلف كثيراً عن تلك التي نقلتها الكاميرات من نيس أو باريس أو بروكسيل، أو حتى من مدن داخل الولايات المتحدة. فالإرهاب الذي تنفذه منظمات تنسب نفسها إلى الإسلام مثل «داعش» أو «القاعدة» أغرى تنظيمات يمينية وجماعات مصالح وعصابات منظمة في الغرب، وكذلك أشخاص، بحل مشاكلهم أو التعبير عنها أو تحقيق أهدافهم بالعنف، خصوصاً بعدما ثبت أن العمل الوقائي ضد الإرهاب في العالم كله ضعيف جداً، في مواجهة جماعات أو أشخاص يعرفون ماذا يفعلون ومدربين على عدم الوقوع في قبضة أجهزة الأمن ينشرون الرعب وينقلونه من بلد إلى آخر. لم يعد العمل الإرهابي يعتمد على هواة وإنما على محترفين مقيمين بين الناس ويعرفون الأماكن جيداً، يختارون الأهداف المزدحمة ويشلون المدن.
التنسيق الأمني مهترئ والأمر لا يتعلق بأوروبا فقط، فالإرهاب انتشر كالسرطان. ربما لا يكون هناك رابط بين بعض العمليات إلا طرق تنفيذها. لاحظ التشابه الكبير بين عمليتي مطاري أتاتورك وبروكسيل. هذا التكرار والتشابه هو تمدد في الشكل يعكس وحدة في الفكر. وما نراه اليوم أعمال محترفة جداً قد تبدو فوضوية أو عشوائية، لكنها تظهر مدى الاحتراف. لاحظ أيضاً انتحار أحد الجناة في مطار أتاتورك وكذلك الجاني في ميونيخ. هما ليسا انتحاريين، لكن حاولا الاستفادة من موتهما بإحداث مزيد من الإرهاب. بالنسبة إلى «داعش» هناك سهولة في الوصول والتنفيذ والتنقل عبر الحدود، وعمليات التنظيم تشير إلى وجود مركز عمليات نشط لـ»داعش» بعيد من الموصل يقود خلايا عنقودية، وإذا جرى القبض على عنصر في التنظيم فلن تصل الأجهزة الأمنية إلا إلى عدد قليل من زملائه.
السفر إلى تركيا من أوروبا سهل والوصول منها إلى سورية والعراق أسهل، والتقاطع بين حركات إجرامية دولية والجماعات الإرهابية واضح، وارتباط هذه الأعمال بأجندات دولية يزيد المشكلة تعقيداً وتشابكاً، ويجعل الإرهاب يتجاوز الحدود ويهاجر ليصل إلى مدن أوروبية كبيرة. الجناة في مطار أتاتورك كانوا من آسيا الوسطى وليسوا عرباً واستخدموا الأسلحة باحتراف، والجاني في ميونخ من أصل إيراني، ومنفذو عملية باريس من أصول عربية، وخلايا اليمين المتطرف منتعشة في ألمانيا وكانت لها أنشطة ضد الأجانب، و»القاعدة» و»داعش» يتنافسان في مهاجمة الأهداف الغربية. فالأول هاجم «شارلي إيبدو» ثم سحب «داعش» البساط من تحت أقدامه. إنها الخيوط المتشابكة و»الفوضى الخلاقة».
* نقلاً عن «الحياة»