محفوظ كان عدواً لربطات العنق بسبب حساسية الجلد

قال لأحد المسئولين أن “ثرثرة فوق النيل” كلام حشاشين ليهرب من الإحراج!

كان يكره وصف الأديب العالمي..وبعد فوزه بالجائزة قال: “بقيت موظف عند نوبل”

قال لتوفيق الحكيم: “نحن نسايب في البخل”!

حين سأله جارودي ماذا يكتب أجابه محفوظ: أكتب اسمي!

”لم يعد هناك من نكات منذ أصبحت حياتنا نكتة سمجة”

هكذا كتب أديب نوبل نجيب محفوظ ملك الفكاهة والإيفيهات كما كان يطلق عليه “الحرافيش”، ونحن نحتفي بالذكرى 27 لحصوله على جائزة نوبل العالمية فى الادب فى مثل هذا اليوم من العام 1988 نتذكر أطرف مواقفه وعاداته، وأشهر “إيفيهاته” مع أصدقائه، فقد تميز الراحل بخفة ظل لا يعرفها إلا من اقترب منه، وتعاملوا معه، فكان صاحب بديهة حاضرة، ومهارة فائقة في ارتجال القفشات الفورية.
وتقول الإعلامية سميرة سليمان في تقرير لها على موقع المحيط، بداية نتوقف عند رأي محفوظ في الفكاهة لدى المصريين، كما يروي عنه الأديب محمد سلماوي في كتاب “حوارات محفوظ”، يقول الأديب الكبير الراحل: أجد أن روح الفكاهة من الخصائص الأساسية للشخصية المصرية، فلا شك أن الإنسان الذي لديه صبر الانتظار فإن روحه تكون سمحة تميل للدعابة. وقد وجد الكاريكاتير على جدران بعض المقابر القديمة، ليؤكد لنا أن روح الدعابة التي يتمتع بها المصري الآن تعود إلى أجداده القدامى.

ولقد استعان المصري دائما على الملمات التي تقابله بالفكاهة والدعابة. ففي عصور القهر تجد النكتة السياسية منتشرة بشكل غير عادي، وهي وسيلة سلمية لمقاومة ظلم الحاكم.

كما أن الفكاهة تساعد المصري أيضاً على تحمل بعض متابعه الشخصية مثل محدودية الرزق وباقي مشاق الحياة اليومية.

محفوظ عدو “الكرافتة”!

تظهر البساطة وعدم التكلف في المظهر العام لأديبنا الكبير فهو لا يلبس ربطة عنق أبداً، وهو دائم إهداء ربطات العنق التي تجيئه إلى أصدقائه بمناسبة أو دون مناسبة، ويقول محمد سلماوي أحد تلامذة أديب نوبل: أذكر أنه في مرة أثناء زيارة عادية في بيته قدم لي ربطة عنق أنيقة، وحين سألته عن المناسبة قال: المناسبة أنني لا أعرف ماذا أفعل بكل ما يجئني من ربطات العنق هذه!.

يقول محفوظ: ظللت ألبس ربطة العنق لسنوات طويلة، لكني كنت أصبت منذ زمن بحساسية جلدية فأصبحت أية ربطة عنق تضايقني، ولم أكن في البداية أستطيع أن أجاهر بعدم ارتداء ربطة العنق فكنت أداري ذلك بأن ألبس “بلوفر” يخفي العنق لكني بعد ذلك أقلعت عن ذلك أيضاً، والآن لا أستطيع أن أعود إلى ربطة العنق ثانية لأني لا أعرف كيف تربط.

في دولاب ملابسي لا توجد ربطة عنق واحدة، وقد كان بعض الأصدقاء مثل يوسف السباعي كلما سافرو إلى الخارج أحضروا لي معهم أربطة عنق فاخرة فكنت آخذ الهدية واستأذنهم في أنني سأقوم بإهدائها.

وعن ارتداؤه للقبعة يذكر: كنت ألبس القبعة في الصيف فقط، فقد قام صديقي الأديب مصطفى أبو النصر بإهدائي قبعة وجدت أن بها فائدة.

وللقبعة تاريخ آخر في حياتنا..حين كنا في مرحلة التعليم الثانوي وفي الجامعة ظهرت دعوة لارتداء القبعة كنوع من الفرنجة، والاندماج في الحضارة الغربية على أساس أن الطربوش هو رمز التأخر وأن القبعة هي رمز التقدم، وهناك من قادوا هذه الحملة مثل المرحوم محمود عزمي، وقد ظهرت في ذلك الوقت منولوجات تتغنى بذلك فتقول “ما بدها ظيطة..ما بدها عيطة..لبسنا البرنيطة”.

لكن تلك الدعوة لم تستهوني لأنه في عز حماسي للحضارة الغربية لم يقل عندي شأن الحضارة الأصلية العربية الإسلامية، فكان على مكتبتي مؤلفات شكسبير والمتنبي مثلاً في نفس الوقت.

كلام حشاشين

من طرائف محفوظ ، أنه عندما صدرت روايته “ثرثرة فوق النيل” وأثارت ضجة لانتقادها الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الستينات، وعندما قابله أحد المسئولين، ليسأله عن المغزى الذي قصده في روايته على لسان شخصياته، أجاب محفوظ: أبدا.. هذا كلام حشاشين!. لأن أبطال الرواية كانوا يحششون في العوامة.

عندما سأله الحرافيش - كما يحكي الأديب الكبير جمال الغيطاني - في جلستهم الأسبوعية عن إحساسه لحظة الزلزال الذي أصاب مصر عام 1992 قال: “كنت أجلس في الصالة، شعرت به بقوة، وتطلعت إلى السقف منتظراً سقوطه، وسقوط برلنتي عبد الحميد في حجري”، .وبرلنتي واحده من أشهر نجمات السينما في الستينيات، كانت تسكن الطابق العلوي من نفس العمارة التي يسكنها محفوظ!

وعندما زاره المفكر الفرنسي جارودي ذات مرة عام 1997، سأله: ماذا تكتب الآن؟ أجاب محفوظ بتلقائية: أكتب اسمي!

كانت زيارة جارودي له عقب محاولة الاغتيال التي تعرض لها عام 1994 بسبب روايته “أولاد حارتنا” وأصيبت اليد اليمنى، وكان يتلقى علاجاً طبيعياً بانتظام، ويعاود التمرين على الكتابة مثل طفل، مكرراً كتابة اسمه آلاف المرات.

يحكى أيضاً أنه في المرة الوحيدة التي ذهب فيها ليشاهد التمثال الذي أقيم له بميدان سفنكس بالمهندسين، فؤجئ بأن النسب والمقاييس غير دقيقة وأن التمثال لايعكس شكله، فعلق قائلا: يظهر أن الفنان الذي صمم التمثال ده لم يقرأ لي سوي رواية “الشحاذ”!

لاعتياده استخدام سيارات الأجرة عرفه سائقوها، وحكي له أحدهم نكتة عنه فأعجبته وحكاها لأصدقائه كثيرا. تقول النكتة: “صادف نجيب محفوظ راقصة معروفة وهو في الشارع يسير علي قدميه ويهم بركوب تاكسي، بينما هي في سيارة مرسيدس فارهة، فقالت له: “شفت الأدب عمل فيك إيه، فرد عليها: “وشفتي قلة الأدب عملت فيكي إيه ؟”

بعد فوزه بجائزة نوبل لاحقه الإعلاميون والصحفيون في كل الأوقات والأماكن، وأرهقوه بالأحاديث واللقاءات فقال: “أنا بقيت موظف عند نوبل”. زاره الكاتب “ثروت أباظة” في المستشفي بعد حادثة طعنه المعروفة، وبكي بحرقة فقال له: “إيه يا ثروت هو انت اللي إنضربت ولا أنا”.

اشترت منه إحدي دور النشر الكبري حق نشر أعماله علي الإنترنت بمليون جنيه، وحين تسلم “شيكا” بالمبلغ مازحه أحد الحضور: “ماذا ستفعل يا أستاذ بالمليون جنيه”؟ فقال بسرعة: بفكر أسيب البلد وأهرب. ساخرا من هروب مليونيرات القروض.

متى نصل للعالمية؟

سأل الكاتب والناقد المسرحي فؤاد دوارة نجيب محفوظ ذات يوم: متى يصل أدبنا الى العالمية. فكان رأي نجيب محفوظ أن هذا لن يحدث أبدا. لأن المجتمع المصري أو المجتمع العربي ليس عالميا. فكيف يصبح أدبنا عالميا؟.

وكما يقول الأديب يوسف القعيد: لم يكن نجيب محفوظ يعرف وهو يقول هذا الكلام سنة 1975 أن نوبل ستأتي له بعد ثلاثة عشر عاما من هذا الكلام. أي في أكتوبر سنة 1988 عندما حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل. وأذكر أن أكثر عبارة كانت تضايقه هي وصف الأديب العالمي التي كنا نصفه بها بمناسبة ومن دون مناسبة!.

وعن ذكريات جلسات مقهى “سان استفانو” يقول الأديب السكندري محمد الجمل، كان الأستاذ محفوظ يتقبل من أعضاء الندوة بعض النكات والقفشات والنقد الزائد عن الحد. وعندما أبديت دهشتي قال لي بتلقائية الفنان الواعي: “نحن هنا في برلمان “سان استفانو”، وهو بديل برلماناتنا الزائفة . لا إبداع من دون حرية تعبير، ولا نهضة من دون صندوق انتخابات شفاف ونزيه، كل واحد يعبر عن نفسه من منظور ثقافته وإدراكه الخاص”.

وقد ظلت علاقة محفوظ قائمة بكازينو “سان استفانو” وندوته الصيفية، حتى بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب عام 1988 فكانت هي الندوة الثانية التي يعقدها بعد لقائه الأسبوعي مع شلة “الحرافيش” في “كازينو قصر النيل” بالقاهرة.

محفوظ والحكيم وثالثهما البخل

ذات يوم كتب الصحفي الكبير كمال الملاخ مقالا يحتفل فيه بميلاد نجيب محفوظ وكان قد كرر ذلك مسبقا مع توفيق الحكيم وفي كلتا المرتين يكتب تواريخ ميلادهما خطأ، فواجهه الأديبان مستنكرين فدافع عن نفسه قائلا: أنا دائما متفائل وأحب البهجة والحياة وهناك العديد من الأرقام التي اتفائل بها مثل 17، 19، 9 إنما 11 - يقصد اليوم الخاص بنجيب - فليس له معنى.

يعني ايه واحد وجنبه واحد. لكن رقم 17 - الذي كتبه الملاخ بدل من 11 - كله هنا وسرور، أما أنت يا توفيق بك فاخترت لك رقم 9 يا توفيق لانك “تسعى” لاثراء الثقافة العربية!. هنا رد محفوظ ضاحكاً: يا عيني على الولد!.

من الوقائع الشهيرة أيضاً حين قال محفوظ في حضرة توفيق الحكيم: رأيت شهادة ميلاد جدي لأبي وعلمت أن أصوله من رشيد، فقاطعه الحكيم قائلاً: لكن أهل رشيد مشهورين بالبخل؟ فأجاب محفوظ: وهتقول ايه لما تعرف إن جدي سافر الاسكندرية مسقط رأسك وتزوج من هناك فضحك الحكيم وقال: يبقى طلعنا نسايب في البخل!.

وعن البخل ونجيب محفوظ يقول الملاخ: كنت فاكر عبدالوهاب وأم كلثوم وتوفيق الحكيم أهرامات مصر الثلاثة في البخل، ولكني اكتشفت الهرم الأكبر في البخل وهو نجيب محفوظ، يعني لو الحكيم بيعزمنى على فنجان قهوة كل سنة فمحفوظ بيعزمنى على “شفطة قهوة” كل كام سنة!.

يحكى عن محفوظ أيضاً أنه أول يوم ذهب فيه إلى مقهى بيترو في الاسكندرية لملاقاة توفيق الحكيم، استقبله هذا الأخير بما عرف عنه من لطف، وكمن أراد أن يؤكد لضيفه ما أشيع عنه “عن الحكيم” من اتصافه بالبخل، قال له: “ممكن أطلب لك فنجان قهوة على حسابي وستضطر أن تطلب لي غداً فنجاناً على حسابك، فبدلاً من التعب فليدفع كل منا حسابه بنفسه”.

رد عليه نجيب محفوظ: “إذا كان ما يمنعك هو خوفك من أن أضطر أن أطلب فنجان قهوة غداً، فإني أعدك ألا أطلبه، وممكن تطلب لي الفنجان وأنت مرتاح”، ولكن الحكيم ضحك وقال لمحفوظ: “وهل يعقل هذا وأنت باين عليك طيب وابن حلال.. اطلب القهوة على حسابك اطلب”!.

لكن نجيب محفوظ ظل لا يصدق أن توفيق الحكيم بخيل، رغم أن هذا الأخير كثيراً ما يورطه في دفع الحساب لبوفيه “الأهرام” يوم كان الرجلان يعملان معاً، حيث يصعب على محفوظ منظر ساعي البوفيه وهو يسأله: “حساب توفيق بيه يا نجيب بيه”، مما يضطر نجيب أن يغطي الحكيم فيدفع عنه الحساب.

يروي محفوظ أن الحكيم دعاه إلى طعام الغداء مرة إلى مائدة منزله في جاردن سيتي على نيل القاهرة، رغم أن هذا الخبر ظل سراً.

لكن ما لم يكن سراً ما وصفته “الأهرام” في مانشيت بارز: “معجزة توفيق الحكيم مع نجيب محفوظ”، حيث حدث أن احتفلت “الأهرام” بعيد الميلاد الخمسين لنجيب محفوظ، ووسط دهشة الحاضرين الذين بلغ عددهم مائتي شخص، تقدم توفيق الحكيم إلى المنصة، مدّ ذراعه إلى جيب سترته الداخلي وأخرج منها لفة صغيرة جداً، حل رباطها وأزاح عنها ورقها، فإذا هي صينية صغيرة من الفضة، ناولها إلى صديقه المحتفى بعيد ميلاده الخمسين وكلماته تختلط بابتسامة، وهو يقول للجميع ملوحاً بالصينية في الهواء حتى يراها القاصي والداني: “هذا من حرّ مالي.. والله!.. إي والله من حرّ مالي صحيح”.

يأخذ نجيب محفوظ الهدية من الحكيم وهو يكاد لا يصدق عينيه، ثم تابع الحكيم قوله: “إن أدب نجيب محفوظ معجزة لا تتكرر، لأنه استطاع أن ينتزع منه هدية”، وكان أن ردّ محفوظ بكلمة رقيقة شكر فيها صديقه العزيز مؤكداً على كلامه أن هذه المعجزة لن تتكرر فعلاً، لأن توفيق الحكيم الفنان العظيم لا يكرر نفسه أبداً.

في ركن بارز في مكتبة نجيب محفوظ تحتله كتب توفيق الحكيم، وضع الروائي الكبير الصينية الفضية هدية الحكيم إليه في الدولاب الزجاجي الكائن في مدخل شقته، وبه الأوسمة والنياشين التي حصل عليها، وفي الصدارة منها صينية الحكيم التي نقشت عليها عبارة: “إلى عملاق الرواية العربية نجيب محفوظ مع الإعجاب”، ثم التوقيع باسم توفيق الحكيم. وإلى جوار الهدية الأولى وضع محفوظ الهدية الجديدة التي أهداها له الحكيم في عيده السبعيني وهي عبارة عن “قلمين”.