تعتبر الأقلية المسلمة في بورما بحسب الأمم المتحدة أكثر الأقليات في العالم اضطهاداً ومعاناة وتعرضاً للظلم الممنهج من الأنظمة المتعاقبة في البلاد، ويبلغ عدد سكانها 50 مليون نسمة، فيما نسبة المسلمين فيها نحو 15%.
وتعود الأحداث المأسوية الحالية التي تعرض لها المسلمون في إقليم “أراكان” على يد هتلر بورما “ثين سن” الذي يقطنه 4 ملايين نسمة، 70% من المسلمين، إلى 60 سنة من المآسي والقتل والتشريد الذي يتعرض له الإقليم على أيدي الجماعات البوذية المتطرفة التي تعرف باسم “الماغ”، وبدعم من الحكومة البوذية الديكتاتورية التي دشنها ديكتاتور بروما “بو دشن” في انقلاب عسكري عام 1962.
وقد توالت المجازر الممنهجة ضد الأقلية المسلمة خلال هذه السنوات وصولاً إلى المجزرة الأخيرة حيث شاهدنا صور الإبادة والحرق والتنكيل والتهجير من أرضهم وديارهم، فمنذ شهرين يعيش مسلمو ولاية “أراكان” الواقعة غرب بورما حرب شاملة ضد المسلمين، بعد أن قُتل 10 من الدعاة المسلمين لدى عودتهم من رحلة دعوية على يد مجموعات بوذية تقدر بـ466 من الماغيين الحاقدين، والتي قامت بضربهم حتى الموت، وقتلهم في صورة تنعدم فيها كلّ معاني الإنسانيّة والرحمة، حيث تمّ ربط أيديهم وأرجلهم ثمّ انهال الجميع بضربهم ضرباً مبرحاً بالعصي على وجوههم ورؤوسهم حتى هشموها، بحيث لا ترى إلاّ وجوهاً محتقنة بالدماء، وقد فقئت أعينهم وكسرت جماجمهم وخرجت أدمغتهم، وسحبت ألسنتهم فلا يعلم إلاّ الله كم عانوا من الألم قبل أن تخرج أرواحهم.
وقد كان موقف الحكومة في بورما مخجلاً حيث ألقت القبض على 4 من المسلمين بحجة الاشتباه، وتركت 466 من المقترفين للجريمة! وذلك بهدف نشر الفوضى وردود فعل مخطط لها من المسلمين المظلومين.
ومنذ ذلك الحين تجوب مجموعات مسلحة العديد من مناطق وبلدات ولاية “أراكان” ببورما، تقتل المسلمين وتحرق وتدمر مئات المنازل. وساند ذلك تصريح “هتلر بورما” الرئيس الحالي “ثين سن” في مؤتمر رسمي مع مفوض الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنتونيو غويترس أن “الحل الوحيد لحل مشكلة مسلمي بورما هو تجميع المسلمين في مخيمات اللاجئين أو طردهم إلى بنغلادش!!
وللأسف لم يصدر أي تعليق من الأمم المتحدة أو تنديد من المؤسسات الحقوقية أو استنكار عالمي، على مثل هذه التصريحات الخالية من الإنسانية والحضارة والتي تحتوي على كل معاني العنصرية والتحريض.
تاريخ وصول الإسلام إلى بورما «أراكان»
يتهم رئيس بورما مسلمي “أراكان” بأنهم دخلاء غير قانونيين على “أراكان” في حين أن “أراكان” من أعرق الممالك المستقلة، وهي أعرق من بورما نفسها، وشعبها المسلم وصل إليها مع دخول الإسلام إليها في القرن الهجري الأول من العرب، والقوقاز والهنود وغيرهم وتزاوجوا مع أهل البلد، وذلك في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله في القرن السابع الميلادي عن طريق التجار المسلمين، حيث انتشر بفضل أخلاق المسلمين الحميدة، حتى أصبحت دولة إسلامية كبيرة مستقلة استمرت لأكثر من ثلاثة قرون، وكان أول ملك حكمها هو الملك سليمان شاه الذي أسلم عام 1430م، وتلاه 48 ملكاً مسلماً على التوالي، وذلك لأكثر من 3 قرون ونصف القرن، أي ما بين عامي 1430 و1784، وقد تركوا آثاراً إسلامية من مساجد، ومدارس، ومكتبات علمية، ونهضة ثقافية لم تعهدها المنطقة من قبل.
وتشير الحقائق التاريخية لـ«أراكان” إلى أنه كان يشترط لملوك “أراكان” قبل توليهم عرش الدولة أن يكونوا حاملين على شهادة الفضيلة في العلوم الإسلامية، وكانت العملات والشعارات الملكية تنقش وتحفر فيها كلمة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” والآية القرآنية: “وأن أقيموا الدين”، إلى أن قام باحتلالها الملك البوذي البورمي “بوداباي” عام 1784 فدمر مدنها وقتل أهلها وهجرهم.
وفي سنة 1824 احتلت بريطانيا الإقليم وعملت على إضعاف مكانة المسلمين فيه، وفي المقابل عملت على دعم وتقوية مكانة البوذيين في كل المجالات، كما قامت بضم بورما إلى حكومة الهند البريطانية الاستعمارية، ولقد استمر هذا الوضع لـ100 سنة.
وفي سنة 1937 دمجت بريطانيا بورما وإقليم أراكان كمستعمرة واحدة مستقلة عن حكومة الهند البريطانية الاستعمارية وعرفت آنذاك باسم “حكومة بورما البريطانية”.
تاريخ الجرائم البوذية ضد مسلمي «آراكان»
في عام 1942 تعرض المسلمون لمذبحة وحشية كبرى راح ضحيتها أكثر من 100 ألف مسلم أغلبهم من النساء والشيوخ والأطفال، وشردت مئات الآلاف خارج الوطن، تحت مرأى ومشهد من الحكومة الاستعمارية المتواطئة، ومن شدة فظاعة هذه المجزرة لايزال الناس يتوارثون أحداثها ويروونها لأطفالهم، وفي لقاء مع أحد أبناء المهاجرين من هذه المذبحة، تحدث أن والده أنجاه الله من هذه المذبحة فجاء مشياً على الأقدام لمدة 6 سنوات إلى أن وصل إلى مكة المكرمة. وفي عام 1962 عقب الانقلاب العسكري الفاشي طرد أكثر من 300.000 مسلم إلى بنغلاديش. وفي عام 1978 طرد أكثر من 500.000 أي نصف مليون مسلم، في أوضاع قاسية جداً، مات منهم قرابة 40.000 من الشيوخ والنساء والأطفال حسب إحصائية وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
في عام 1988 تم طرد أكثر من 150.000 مسلم، بسبب بناء القرى النموذجية للبوذيين في محاولة للتغيير الديموغرافي.
وفي عام 1991 تم طرد قرابة 500.000 أي نصف مليون مسلم، وذلك عقب إلغاء نتائج الانتخابات العامة التي فازت فيها المعارضة بأغلبية ساحقة انتقاماً من المسلمين، لأنهم صوتوا مع عامة أهل البلاد لصالح الحزب الوطني الديمقراطي المعارض.
وتتعرض الأقلية المسلمة في كل عام تقريباً هناك لجرائم ممنهجة من القتل، والتشريد، والظلم، والاضطهاد، والتضييق الاقتصادي، ومصادرة الأراضي، بزعم أنهم بنغاليو الأصل والدين واللغة لكن يتم التعتيم الإعلامي عليها.
بداية المأساة الجديدة
في يونيو 2012 أحاط الجيش والشرطة البوذيّة بشوارع المسلمين تحسّباً لأيّ عملية مظاهرات، ونظموا خروج المسلمين للصلاة، وأثناء خروجهم قام الرهبان البوذيون الماغ برمي الحجارة عليهم، فطبيعي أن يثور المسلمون وقاموا بردة فعل مع احتقان النفوس على قتل الدعاة العشرة ظلماً وعدواناً، وكأنها الفرصة التي خطط لها وكان ينتظرها “الماغ” فقاموا بالزحف على قرى ومنازل المسلمين بالسواطير والسيوف والسكاكين، فبدأت حملة القتل والإبادة المنظمة ضدّ المسلمين العزل، وحرق قرى كاملة، شارك فيها حتّى كبار السن والنساء، ولما تدخّل الجيش فرض حظر للتجول على المسلمين، بينما ترك الماغيين ليعيثوا في الأرض الفساد، أمام الشرطة الماغية البوذية وصمت الحكومة والعالم أجمع، حيث استغل البوذيون الماغيون فرض حظر التجول في المناطق ذات الأغلبية المسلمة، وضمنوا عدم استطاعة زحفهم تجاه إكياب عاصمة “أراكان”، وهي مدينة بعيدة عن تجمع المسلمين مثل مانغدو وراثيدونغ وغيرها، فقاموا بحرق أحيائهم بالكامل، وبدأ النزوح الجماعي للمسلمين من إكياب ومانغدو بعد أن احترقت منازلهم وصاروا يهيمون على وجوههم في كلّ مكان بأجساد عارية ليس عليها إلا خرق بالية، وبدأ تهجيرهم وطردهم والدفع بهم في عرض البحر على سفن متهالكة بلا طعام ولا شراب.
وهكذا بدأت رحلة المجهول على قوارب الموت مسلمّين أمرهم إلى الله، وقد علت أصوات أطفالهم بالبكاء، ونسائهم بالاستغاثة، والالتجاء من الله، وقد انتهت رحلتهم المأسوية بالوصول إلى حدود الدول المجاورة وهم في حالة بين الحياة والموت والكثير منهم قد فارق الحياة، في واحدة من أكبر جرائم التطهير العرقي في القرن الواحد والعشرين، وقد ذكر الشيخ نبيل العوضي من دولة الكويت في زيارته الأخيرة إلى مخيمات اللاجئين على الحدود البنغلادشية أنه شاهد عجوزاً عمرها 80 سنة قُتل أولادها وأحفادها وأنقذها الجيران.
إبادة ممنهجة ضد المسلمين
تهدف الحكومة البورمية من وراء القتل الجماعي والتشريد والاضطهاد والتهجير القسري والابتزاز وانعدام الحق في الإقامة ومصادرة الأراضي بعقلية التطهير العرقي، حتى يتمكنوا من سرقة “أراكان” الغنية بمواردها الطبيعية التي حباها الله من النفط والغاز وأجود أنواع الأخشاب في العالم، وللأسف فقد حدثت كثير من هذه المجازر في وقت الانفتاح السياسي الذي تنتهجه حكومة بورما التي غير زعماؤها ملابسهم العسكرية إلى مدنية، ومدت لهم الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا يدها، حيث زارهم وزيرة الخارجية الأمريكية والرئيس البريطاني حديثاً، وتتواجد الآن شركات تنقيب البترول الأمريكية والشركات الاستثمارية العملاقة في إقليم “أراكان” ولعل هذا السبب الاقتصادي هو الثمن الذي دفعته حكومة بورما لشراء صمت أمريكا والغرب عن هذه المجازر، في الوقت الذي كان يجب على هذه الدول أن توقف نشاطها التجاري، وتحيل رئيسها إلى المحكمة الجنائية الدولية، تحت البند السابع المعني بالانتهاكات.
مأساة في مخيمات اللاجئين
يعيش اللاجئون الذين استطاعوا الوصول إلى حدود الدول المتاخمة وهي بنغلادش التي تؤوي العدد الأكبر وتايلند، أوضاعاً لا يمكن وصفها إلا بالمأساة حيث يفتقرون إلى أبسط مقومات الحياة، فهم لا يجدون مأوى للنوم والمعيشة، ولا رعاية صحية تقيهم الأمراض الفتاكة المنتشرة، ولا قدرة على المعيشة بسبب عدم وجود الأكل والشرب.
الموقف الدولي من قضية «أراكان»
على الرغم من مناقشة مأساة مسلمي “أراكان” من قبل الأمم المتحدة ومنظمة “آسيان” ومنظمة المؤتمر الإسلامي منذ أكثر من عقدين، إلا أن الأوضاع زادت مأساويةً في ظل سكوت العالم عن هؤلاء المسلمين الذين لا يشكلون مصلحة مادية لهم وعدم وجود مدافع حقيقي عنهم، وهذا سيؤدي حتماً إلى تكرار سلسة المجازر والإبادة الممنهجة والمستمرة منذ 60 سنة، إلى أن تستيقظ الدول الإسلامية والمؤسسات العالمية لإنقاذهم.
وفي الآونة الأخيرة صدرت استنكارات خجولة من منظمات إنسانية مثل منظمة “العفو” الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان الأمريكية “هيومن رايتس ووتش”، ولم يكن لها تأثير على مؤسسات الدولة وصناع القرار، والإعلام ليوقفوا نزيف القتل والتجهير الذي تمارسه حكومة بورما، وللأسف لم نسمع أي تنديد أو شجب من قبل زعيمة المعارضة “أونغ سان سو تشي” -أيقونة الديمقراطية- التي عانت من ظلم الاستعباد، ووضعت تحت الإقامة الجبرية منذ عام 1989، وحصلت على أرفع الأوسمة والجوائز لنضالها اللاعنفي من أجل الحرية ومحاربة الظلم والاضطهاد وآخرها جائزة نوبل للسلام وميدالية الكونغرس الذهبية، وهي أرفع تكريم مدني في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد وجه إليها الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلي خطاباً يحثها على أن يكون لها موقف منصف في هذه الأزمة، لكنها لم تحرك ساكناً، كما إن معظم الدول الإسلامية غير مكترثة بالإبادة التي يتعرض لها إخوانهم في بورما، ولم يكن لها أي تنديد أو شجب أو استنكار، ناهيك عن التهديد بقطع العلاقات أو غيرها، وهذا بلاشك سيشجع بورما على الاستمرار في مخطط التطهير الذي تتبعه.
دور المؤسسات الإنسانية والإسلامية بمخيمات اللاجئين
للأسف الشديد إن دور المؤسسات الإنسانية العاملة في “أراكان” لايزال ضعيفاً بسبب عدم اهتمام الإعلام والمؤسسات الحقوقية والإنسانية بهذه القضية، وتأثير ذلك على الموارد المالية، إضافة إلى عدم توفير التسهيلات اللازمة من قبل حكومة بنغلادش للمؤسسات الإنسانية، كي لا تشجع هجرة البورميين إلى بنغلادش، والتي تعاني أصلاً من توطن اللاجئين سابقاً من بورما، ولله الحمد والمنة فقد قامت مؤسسات بحرينية وخليجية بزيارة مخيمات اللاجئين البورميين في بنغلادش وتقديم المساعدات الإنسانية لهم، وقد سبقتها زيارة لوزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلوا وزوجة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى بورما نفسها حيث قاما بزيارة مخيمات اللاجئين وتقديم المساعدات لهم، ولكن تبقى الحاجة كبيرة جداً لإغاثة 500 ألف لاجئ على الحدود، وتقريباً نفس العدد بداخل بورما، ونأمل من الحكومات الإسلامية إيفاد مسؤولين إلى بورما للوقوف على أوضاع إخواننا هناك وتقديم العون الممكن لهم قبل أن يسألنا الله عنهم يوم القيامة.