بينما كنت أفتش من بين سطور مقالاتي الماضية.. بحثاً عن كلمات توقظني وتوقظ من حولي ومن يقرأ كلماتي.. فوجدت هذه السطور التي فرضت نفسها من جديد في وقت مهم من حياة متسارعة.. يقول الشيخ عائض القرني: «ويلك أنت مهموم بالقرش والفرش والكرش، وسعد يهتز لموته العرش. تهاب الوضوء إذا برد الماء، وحنظلة غسل قتيلا في السماء، تعصي حي على الفلاح، ومصعب بن عمير قدم صدره للرماح، ما تهتز فيك ذرة، والموت يناديك في كل يوم مائة مرة، والله لو أن في الخشب قلوباً لصاحت، ولو أن للحجارة أرواحاً لناحت، يحن المنبر للرسول الأزهر، والنبي الأطهر، وأنت ما تحن ولا تئن، ولا يضج بكاؤك ولا يرن، لو مت لعذرناك، وفي قبرك زرناك، ولكنك حي تأكل وتشرب، وتلهو وتلعب، وتغني وتطرب. بعض الصالحين أتى لينام، فترك الفراش وقام، وأخذ ينوح كما ينوح الحمام، قالوا: ما لك؟ قال: تذكرت: «يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية» وهذه الآية كافية».

تواصل الذنب لا تدري بعاقبة

وتستهين بأمر الواحد الصمد

كأن قلبك مطبوع عليه فلا

تخشى عقاباً ولا تبكي على أحد

انتهى.

أقول.. آه ثم آه لقلوبنا القاسية، ونفوسنا العابثة، وأوقاتنا اللاهية، وأحاسيسنا الجامدة.. آه ثم آه لحياة تمضي بأثقال المعاصي والآثام، وبنفس لا تشبع من العبث في التفاهات العظام.. آه ثم آه لنفوس تسرح في حلمها الزائل المشين، فلا تلتفت لحياة صالحة مليئة بأعمال الخير والصلاح، فهي تعيش في جسد أضحى مائدة لكل جائع يهوى الهوى وجنون الأحلام وحضيض الآثام!!

ويل لكل نفس لا تعي أنها تعيش في وسط نار تأكل حسناتها، وتلتهم حياتها وأوقاتها، فهي تحطم الأيام بيدها المثقلة بأوحال المعاصي والذنوب، فلا ترتجف خوفاً من مطبات العيش وحوادث الدهر المؤلمة، ولا تقرع آذانها مصائب القوم، ولا تبكي خشية من ربها على أخطاء فادحة ارتكبتها في دنيا البشر، فأبعدتها عن فالق الحب والنوى، وجعلتها حبيسة لنفسها المسيئة، ولهموم الدنيا وأثقال المعاصي.. فهي ترتعد خوفاً من مصير مؤلم وخاتمة موحشة والعياذ بالله.. وتجمد في مكانها ويموج في نفوسها أشعة الظلام الدامس، والوحشة التي تفرض عليها العيش بعيداً عن كل البشر.. فلماذا كل هذا.. ألا تعرف أنك مقبل على الرحيل من مكان إلى آخر، وتستعد للحظات حاسمات تتطلب المزيد من الحذر والترتيب لضمان روعة الرحيل؟

لا تستغرق في لبس رداء الظلام طويلاً، ولا يشيخ عمرك في ليل بهيم بائس يتأمل بالرغم من ظلامه الدامس في ظلام أشد ألماً على النفس.. ارفع رأسك وجب طرقات الأمل، وأعد كتابة صفحات حياتك من جديد في كل لحظة تعيشها الآن قبل «بعد قليل»، واليوم قبل الغد الذي قد يرحل عنك، أو ترحل عنه وتقضي نحبك بدون أن تترك ما يفيدك بعد الرحيل، أو ينفعك بعد الانتقال إلى تلك الحفرة الضيقة.. البس ثوب الحقيقة، وعش حياة أكثر واقعية، ولا تسبح في الأحلام السادرة، ولا تجزع من حوادث الدهر، وقم من عثراتك مرات ومرات، ولا تتشاءم من حوادث الحياة وعراقيل المسير، ولا يصبك الحزن والوهن من عبث الدنيا وحطامها الزائل، ولا تعش في دوامة الأسى والتفكير في المجهول عندما يعتريك الخطب الجلل، وتقع في حبائل الآثام المزرية التي يلهيك فيها الشيطان عن معالي الخيرات، ويخدش خلالها نياتك الحسنة..

التزم بدوحة الحب الإلهي، وكن أكثر قرباً من رب الأرباب ومسبب الأسباب، اقرأ الآيات البينات، واستغل أوقاتك في الخيرات، واحذر من التفنن والعودة إلى مواطن السيئات، اجعل كل تجاربك خبرة لك في حياتك، تعيشها الآن وتكتب صوابها في صفحاتك، وتحذر من الوقوع مستقبلاً في شباك أخطائك!! تأمل مراراً وتكراراً «يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية» وتأمل: «ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد».. تأملها جيداً في كل حركاتك وسكناتك وخواطر نفسك، لتعش في سلام أمني وحياة تستعد للحظات الانتقال إلى حياة البرزخ..

ابك على خطيئتك، وارفع يديك للخالق العظيم تتبتل إليه وتستغفره وترجوه أن يرحمك برحماته الواسعة.. تذكر أن بابه الواسع ورحمته تحتضنك في كل حين.. فقط احذر من الغفلة قبل الرجفة، وعش في ضميرك الداخلي في كل خطوة تخطوها نحو عمر آخر ستعيشه شئت أم أبيت!! اصنع جمال ساعة الرحيل من الآن فلا تعلم متى تخطفك رياح الأجل!! كن دائما على خير وعلى هداية وصلاح، اعمر قلبك بذكر الرحمن، ولسانك بالتسبيح والتهليل والاستغفار، واسع في الخيرات، ومد يدك لكل البشر تلتمس أن تمد لهم يد العون لكل حاجة يطلبونها منك..

عذراً.. فشوقنا دائماً إليك يا رب.. بلذة إيمان نعيشها وتعيش فينا.. فافطم أنفسنا يا الله عن شهوات العيش.. وأمدنا بكل خير يعيننا على مجابهة الخطوب.. واجعلنا في كنفك وأمنك وسترك.. وأسبغ على قلوبنا السعادة والطمأنينة.. وأحسن لنا الختام.. يا رب.

* ومضة أمل:

تبتعد بأيام حياتك - في فرصة لا تعوض - عن ترهات البشر وإرهاصات الحياة، لتستقبل تلك الأيام الزاخرات بالعطاء والتغيير والتأثير، وتنعم فيها بأنفاس جديدة تجدد فيك أنماط الحياة والتفكير، وتنشط دورة حياتك من أجل أن تعيد حساباتك وتعود من جديد لميدان التميز والكسب الحياتي والأخروي. تعود لتقتنص جزئيات الفرص التي مضت يوماً ما وكنت فيها مبدعاً معطاءً محباً للخير بصمت فيها أجمل الأثر، وكنت معها الفارس الذي لا يفتر في مضمار الحياة.. فحانت فرصة النهوض مع أجواء ساعدتك لتغيير جمود الفكر والانتقال إلى عالمية العطاء.. هي النفس التي تحتاج إلى جرعات متجددة من الإيمانيات لتواصل مسيرها حتى الرمق الأخير من الحياة.