تحقيق - طارق مصباح:
طالعتنا الصحف المحلية مؤخراً أن «مواقف للسيارات في مباني عمارات سكنية تحولت إلى مخازن وغرف للإيجار تقطنها العمالة العازبة»!!
يحدث هذا على الرغم من تأكيد الاشتراطات بتوفير مواقف السيارات في هذه المباني للحد من مشكلة شح المواقف في المناطق السكنية القديمة تحديداً!
والاشتراطات البلدية تلزم أصحاب المباني والعمارات السكنية بتوفير مواقف للسيارات لسكان المبنى، ولكن هناك عدداً من أصحاب هذه المباني يحول هذه المواقف التي هيأها، بتوصيل الماء والكهرباء، إلى غرف بهدف تحقيق الربح!! فكيف يحدث ذلك؟!! وما أنواع المخالفات التي يرتكبها أصحاب العمارات السكنية؟ وما مدى الالتزام بالاشتراطات والقوانين التي وضعتها الجهات المسؤولة في هذا الشأن؟ وهل هناك قانون لردع المخالفين؟ وهل يُطبق هذا القانون؟
8 شقق و4 مواقف
كان بوأحمد خارجاً من شقته في إحدى عمارات العاصمة ينظر يمنةً ويسرة.. وكأن شيئاً ضاع منه.. فراقبته على الرغم من أن «من راقب الناس مات هماً»، فوجدته يسير طويلاً ليصل إلى سيارته ويدور حولها دورة كاملة ليتأكد من سلامة جسمها!
ألقيت السلام عليه وسألته مستغرباً: أكلُّ يوم أنت تفعل هذا.. ولماذا؟..
أطلق بوأحمد زفرة حرى وروى لي معاناة شريحة واسعة من المواطنين مع مهمة صعبة عليهم أن يؤدوها في اليوم أكثر من مرة، وهي حصولهم على مواقف لسياراتهم. وتركته يتحدث، فقال: سكنت في هذه العمارة منذ عشر سنوات مضطراً لأنها قريبة من مقر عملي وفوجئت بعد 5 سنوات بثلاث عمارات أخرى تبنى أمامها.
سألته باستغراب: لكن لماذا أوقفت سيارتك بعيداً عن العمارة التي تسكنها..
أمسك بيدي ليتجه بي نحوها، وعندما وصلنا قبالة العمارة قال لي: انظر... العمارة «كبيرة» وعدد شققها 8 شقق ولكنها تحوي في أسفلها أربع مواقف فقط!
مخالفات ومشكلات!
لم أرد إشغال المواطن بكثير من الأسئلة، لأن «الفكرة وصلت»، كما يقول مقدمو برامج التلفزيون، ولما وصلت الفكرة قررت التوجه إلى الممثل البلدي للدائرة الأولى بالعاصمة غازي الدوسري الذي أكد لي أن حجم معاناة أهالي الحورة والقضيبية من عدم التزام أصحاب العمارات بتوفير مواقف لسيارات السكان تكاد تكون الأكبر في المملكة، كاشفاً عن تجاوزات أخرى تتمثل في تحويل بعض ملاك العمارات مواقف السيارات إلى محال تجارية!
وقال الدوسري ساخراً: «الناس اليوم في هالمناطق وين توقف سياراتها.. الجميع أصبح عندهم سيارات حتى عامل تنظيف الشوارع»! مشيراً إلى الاكتظاظ السكاني الرهيب الذي تعانيه أحياء العاصمة التي ينبغي أن تكون أكثر مناطق المملكة تنظيماً والتزاماً بالقوانين لأنها وجهة السياح، ضارباً مثلاً بدول زارها، وقال: خلال زياراتنا إلى دول خليجية لاحظنا أن أصحاب العمارات ملزمون بشدة بتوفير مواقف بعدد شقق العمارة، بل والقانون هناك يشدد على ذلك.
وأضاف الدوسري مبيناً أهمية قوة القانون في وجه المخالفين: هناك تشديد كبير على المخالفين إلى درجة أن البلدية في هذه الدول تقطع الكهرباء والماء عن أي عمارة في حال ثبوت المخالفة على صاحبها.
ولكن أيها العضو البلدي أين أنتم من هذه القوانين؟! يجيب الدوسري: هناك تراكمات سابقة ندفع ضريبتها اليوم، إذ تم منح إجازات للبناء في شوارع تجارية وغير تجارية لعمارات من دون مواقف.
وطالب الدوسري الحكومة بتوفير 4 مواقف عامة للسيارات كشف عن البدء بتوفير أحدها وهي معروضة حالياً للمناقصة لتكون مبنى مواقف للسيارات متعدد الطوابق في شارع القضيبية، وقال إن هذه المطالب جاءت بعد أن صدر أمر بإيقاف البناء في المجمعات 321، 318 و380 لحين استيفاء شروط البناء مقترحاً أن يتم منح تراخيص البناء مع توفير المواقف للمباني التي تزيد مساحة أرضها على 200 متر.
تخبط وعشوائية.. إلى أين؟
سنعود إلى العاصمة، ولكن بعد أن نتابع معاناة أهالي المحرق، إذ تلقيت مكالمة من محرقي دعاني للتجول في أحياء المحرق القديمة.. فماذا رأيت؟!
ارتفاع في البنيان، عمارات وسط أحياء سكنية، بيوت قديمة أحاطت بها عمارات، ولكنها عمارات من دون مواقف! فأين يوقف سكانها سياراتهم؟!
التقيت مجموعة من الأهالي هناك، وذكر لي جابر حسن أن العديد من المشكلات تحدث يومياً تتعلق بندرة المواقف.
بينما قال صالح الحربي إنه يريد شراء سيارة عائلية كبيرة جديدة إلا إنه يؤجل ذلك لأكثر من ثلاث سنوات لأنه يخاف عليها من الإصابات المتكررة التي يحدثها مجهولون نظراً لإيقافه سيارته بعيداً عن العمارة التي يسكن فيها!
أما محمد السيد فوصف ما يجري من بناء العمارات وسط أحياء المحرق بأنه «تخبط وعشوائية فاقت المعقول»!!
كان لزاماً عليَّ بعد هذه الجولة التي أتعبت نفسي بها أن ألتقي رئيس مجلس بلدي المحرق عبدالناصر المحميد ليحدثني عن سبب استمرار هذه «العشوائية» في بناء عمارات تعدت الأربعة طوابق في أحياء قديمة بالإضافة إلى أنها لا تتوفر فيها مواقف للسيارات مما أدى إلى نشوب صراعات بين السكان ومشكلات ازدحمت بها مراكز الشرطة..
ولكني بمجرد طرحي لموضوع التحقيق مع المحميد بشرني أن المجلس حظر بناء العمارات والمباني السكنية في المناطق القديمة في المحرق بموجب قرار سابق في جلسته الاعتيادية في يونيو 2011 سبقه قرار منذ العام 2009.
(تحدث إلينا مواطنون في المحرق مؤكدين أن الحظر الذي ذكره المحميد موجود على الورق فقط).
وأضاف: أن المجلس رفض أيضاً توصية اللجنة الفنية التي اقترحت وضع معايير لاستثناء تراخيص إنشاء العمارات بمناطق المحرق القديمة المشمولة بالحظر، وأشار في حديثه إلى أن المجلس اتجه في دورته الثانية إلى وقف بناء العمارات السكنية في المناطق السكنية المكتظة، لتفاقم أزمة مواقف السيارات والتداخل الاجتماعي غير المنظم من العمالة الوافدة والذي تسبب بالإخلال بالتركيبة السكانية في مدينة المحرق العريقة، وفقد الأهالي الخصوصية في بيوتهم، كما تسبب هذا الأمر بالضغط على البنية التحتية.
وذكر المحميد أن الوزارات الخدمية رحبت كثيراً بهذا القرار، مبيناً أن المناطق الجديدة يوجد فيها خلط في التصنيف (بيوت قرب عمارات) مما أخل بالتركيبة السكانية، مطالباً أن تكون العمارات في حيز بعيد عن البيوت لأن العديد من الشكاوى استقبلها المجلس تظهر مدى الاستياء والتضايق الكبيرين من الأهالي بهذا الشأن.
وبشأن علاج هذه التجاوزات شدد المحميد على ضرورة تعاون كل من الجهاز التنفيذي بوزارة البلديات، إدارة التخطيط، السجل التجاري، السجل العقاري وهيئة الكهرباء والماء لسن قوانين والالتزام بها ومعاقبة المخالفين وثبات تصنيف المناطق، مشيداً في ختام اللقاء بالقانون المعمول به في إمارة دبي إذ تقوم الحكومة بقطع الكهرباء والماء عمن يحول مواقف السيارات إلى غرف ليؤجرها كمخازن، وبذلك فإن من ينوي الالتفاف على القانون «سيعمل لذلك ألف حساب».
إعادة تصنيف المناطق
ولكن، هل جميع مناطق المملكة تعاني من هذه الظاهرة؟!
خطر هذا السؤال في ذهني وأنا أتجه بسيارتي إلى الدائرة الخامسة بالجنوبية (عسكر – جو) إذ شاهدت «مآسي» الحورة والقضيبية وأحياء المحرق القديمة! فهل يعني ذلك أن المحافظة الجنوبية خالية من أزمة «عمارات دون مواقف»؟!
قصدت العضو البلدي للدائرة ناصر المنصوري والذي أكد لي بدوره أن المنطقة ليس فيها سوى 3 عمارات فقط، كلها مستوفية للشروط، وقال: إن الدائرة ترحب بالنشاط التجاري والاستثماري وفتح المكاتب والمحال التجارية لإنعاشها.
وبشأن ما تعانيه بعض مناطق المملكة من جراء مشكلة التحقيق عزا المنصوري السبب إلى «الحاجة الماسة لإعادة تصنيف المناطق»، وذكر أنه اقترح تأجيل البت في العديد من الطلبات التي تقدم بها المواطنون إلى اللجنة الفنية بمجلس الجنوبية بشأن بناء عمارات في الرفاع الغربي بسبب كثرة الشكاوى التي ترد إلى الأعضاء من السكان الذي ضاق بهم المكان ولم يجدوا أماكن لإيقاف سياراتهم.
واقترح المنصوري إعادة دراسة المنطقة الجنوبية وتخصيص أراضى لإنشاء مراكز تجارية بعيدة نوعاً ما عن الأحياء السكنية وبذلك تكون المدن خالية من المحال التجارية التي تسبب ازدحاماً في مواقف السيارات.
مازلت في المحافظة الجنوبية، إذ تجولت مع العضو البلدي محمد البلوشي ودار بيننا حديث خلصت منه إلى أن منطقة الرفاع لا يشترط في عماراتها توفير مواقف للسيارات! لذا فإن أعضاء المجلس البلدي في الجنوبية يبذلون جهدهم لتعديل هذا القانون بعد تفاقم المشكلات بين السكان.
وأوضح البلوشي: نحن في المرحلة الخامسة من تعديل هذا القانون بعد حدوث تلاعب وجري وراء المصالح الشخصية، والمجلس رصد 3 مخالفات متعلقة ببناء مخازن بدلاً من مواقف للسيارات.
وبيَّن أيضاً أن هناك تعاوناً كبيراً مع الجهاز التنفيذي بوزارة البلديات وعملاً منظماً لتخفيف هذه الأزمة.
بيوت للأبناء وليست للأبناء!
قبل أن أعود إلى العاصمة تجولت في المنطقة الوسطى، وتحديداً في مدينة عيسى، وجدت بعض العمارات من دون مواقف، ولكن أغلبها كان ممن صنف في الشوارع التجارية التي لا يلزمها القانون توفير مواقف لأن الطابق الأرضي سيكون بطبيعة الحال محال تجارية.
وفي لقاء مع العضو البلدي بثالثة الوسطى خالد عامر حدثني عن جانب آخر من مشكلات العمارات وهو أنها أصبحت تُبنى قبالة البيوت الأرضية وبذلك نشأت مشكلات اجتماعية بين الجيران ووصل عدد منها إلى مراكز الشرطة.
وتساءل: كيف توافق وزارة البلديات على إعطاء تراخيص لهذا النوع من العمارات من دون شروط ولا ضوابط؟
وكشف عامر عن أن مجلس بلدي الوسطى في دورته الحالية أوقف بناء العمارات في الأحياء السكنية لحين دراسة الموضوع بعد لقاء مع الوزير تم الاتفاق فيه على وقف الرخص للعمارات الاستثمارية واستمرار إعطاء الرخص لأصحاب البيوت الذين يرغبون في بناء طابق ثان أو ملحقات لأبنائهم الذين ينتظرون طلباتهم الإسكانية.
غير أن العضو البلدي برابعة الوسطى غازي الحمر أبدى امتعاضه من استغلال بعض المواطنين الموافقة البلدية على منحه رخصة بناء وأجّرها على العزاب مما أخل بالتركيبة السكانية للمناطق محدثاً بذلك مشكلات اجتماعية مما دعانا إلى العمل لتنظيم إعطاء الرخص بشرط أن يوقع صاحب البيت على تعهد أن يُسكِن أهل بيته في الملحق.
وتناول الحمر في حديثه أيضاً انتشار ظاهرة غير قانونية وهي تخصيص شقق لمكاتب تجارية وصالونات حلاقة داخل العمارات السكنية التي تقطنها العائلات، مؤكداً أن نظام الاشتراطات التنظيمية لا يسمح بذلك وأن من يقوم بهذا العمل فقد خالف القانون.
التخطيط العمراني
ونختتم جولتنا كما بدأناها في العاصمة، ولكننا سنحل ضيوفاً على منطقة أم الحصم التي شهدت نمواً عمرانياً انتشر في رقعتها، غير أن العضو البلدي للمنطقة عدنان النعيمي قال: إن المنطقة تحتاج إلى تدخل عاجل من إدارة التخطيط العمراني لتغيير تصنيف العديد من شوارعها، مبيناً أن المناطق القديمة يصعب على المجلس البلدي إعادة تصنيفها وتحديد مخالفاتها.
واتفق النعيمي مع من سبقوه حول وجود مخالفات تغيير بعض الشقق السكنية في العمارات إلى مكاتب وصالونات الأمر الذي يزعج السكان، مبدياً استغرابه الكبير من بناء عمارات شاهقة وسط الأحياء السكنية التي توجد فيها البيوت والفلل الأمر الذي يفقد أصحاب البيوت الخصوصية.
وقبل أن أنهي لقائي معه ذكر عدنان النعيمي نوعاً آخر من مشكلات العمارات وهي وجود عمارات «آيلة للسقوط»، وقال: أعددت بذلك تقريراً طالبت فيه الجهاز التنفيذي بوزارة البلديات بالوقوف على هذه المشكلات لكي لا تحدث كوارث يروح ضحيتها الناس.
«الوطن» قبل أن تغلق صفحة هذا التحقيق تدعو أصحاب العمارات إلى أن ينظروا بعين المصلحة العامة، وأن يراقبوا القانون في معاملاتهم، فلا خير في أعمال يعود ضررها على المجتمع وأفراده لتحقيق مصالح شخصية، ومجتمعنا البحريني سيبقى متعاوناً على الخير.. محباً لأفراده.. متعاوناً على نهضته.