كتب - عبدالله الذوادي:
البحرين هذه الجزر الوادعة على مياه الخليج العربي كثيراً ما تعرضت لكوارث وأحداث خلال القرن العشرين بعدما كانت في القرون السابقة محط أطماع الغزاة من كل جانب، ولعل القبور الكثيرة التي تضمها أرضها في عالي وباربار ومدينة حمد ومناطق كثيرة من أراضيها تدل على أنها كانت مطمعاً من مطامع الغزاة، بعضهم غزاها لموقعها الاستراتيجي كمحطة تجارية بين الشرق والغرب، والبعض عشقها لوجود مياهها العذبة ونخيلها وبساتينها، والبعض الآخر لكونها غنية بلآلئها التي اشتهرت بها على مر العصور، حتى في عهد النبوة كان أهل المدينة المنورة يفرحون حين يأتي خراج البحرين إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى بيت مال المسلمين لوفرة خيره والذي كان يعد أفضل خراج يأتي إلى بيت مال المسلمين، وهذا ما أثار أطماع الكثيرين في رغبتهم في احتلال البحرين والتي ستكون دائماً عصية على الطامعين.
كوارث مرت على البحرين
من الكوارث التي حلت بالبحرين كما رواها لنا الأولون في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ما سمى بسنة الرحمة، وسميت بسنة الرحمة عندما انتشر مرض الطاعون وسماه البعض فيما بعد بمرض الكوليرا حيث كان الناس يتساقطون كأوراق الشجر إلى درجة أن عدداً من مشيعي الجنائز يسقطون موتى في المقابر أو وهم في طريقهم إلى المقابر لتشييع موتاهم، وأطلق على تلك الحقبة بسنة الرحمة، لأن انتشار ذلك المرض استمر على ما يبدو سنة كاملة، وليس لدى معلومة عن تلك السنة التي انتشر فيها ذلك المرض وراح ضحاياه آلاف البحرينيين رحمة الله عليهم إلا أن الأخ العزيز عيسى الجودر أفاد بأن سنة الرحمة التي انتشر فيها الطاعون هي سنة 1925 في شهر ديسمبر الموافق لجمادي من العام 1344 هجرية وهذا يعني أنه استمر حتى عام 1926م وقانا الله وإياكم شرور هذا المرض.
«سنة االطبعة» كانت بفعل الريح أم الجان
أما الكارثة الثانية التي عانى منها شعب البحرين فهي سنة الطبعة التي كانت في صيف 1928م كما ذكِر لدى بعض المؤرخين، فلقد كان يخرج إلى الغوص أكثر من أربعة آلاف سفينة، كانت تذهب للهيران التي يغوص فيها الغاصة لالتقاط المحار والبحث في بطونه عن اللآلئ والدانات التي كانت البحرين تعتمد في اقتصادها على الدخل المادي من هذه الثروة الطبيعية منذ آلاف السنين، واشتهرت البحرين عالمياً من بريق هذه اللآلئ والدانات. ففي ليلة ظلماء من صيف 1928م هبّ عافور أو عاصفة هوجاء أخذت السفن تضرب بعضها بعضاً وتحولت تلك السفن إلى ألواح خشبية انتشرت على وجه البحر التي تتلاطمها الأمواج العاتية وظلمة الليل، وقد تمسك معظم البحارة ببعض تلك الألواح لإنقاذ أنفسهم، إلا أن عدداً كبيراً منهم غمرتهم المياه واصطادتهم أسماك القرش «اليرايير» فمزقت أجسادهم وأكلتهم وحولتهم إلى وجبة شهية في حفل جنائزي لم يشهد له بحر خليجي مثل ذلك العرس الدموي، وخلفت تلك الكارثة يتامى وأرامل وأمهات ثكلى ودخل الحزن في كل بيت من بيوت البحرين في مدنها وقراها، وأثر هذا الحدث الجلل الذي أصاب البحرين واقتصادها في مقتل خرجت معه بعض الإشاعات والتكهنات ومن تلك الإشاعات أن بعض البحارة الذين نجوا كانوا يسمعون أصواتاً تردد «إكلب.. اكلب» يعني إِقْلِب.. إقْلِب»، وقال البعض كما يروى الناجون إنهم عندما «بندروا» بسفنهم في تلك الليلة في أحد «الهيرات» شعروا أن الجان كان يتخذ منه مسكناً وكانوا قد أبدوا انزعاجهم من تلك السفن ومن عليها فأخذوا يقلبون السفن رأساً على عَقبْ وحدثت تلك الكارثة، لكن الصحيح هو أنها عاصفة طبيعية لم يتوقعها البحارة، داهمت سفنهم ليلاً فنتج عنها تلك الفاجعة لكافة أبناء البحرين وسميت بسنة الطبعة، رحم الله من لقي وجه ربه في تلك الحادثة وأسكنه فسيح جناته. هكذا كان البحرينيون يواجهون الصعاب والموت في كل يوم من أيام الغوص لقاء دخل زهيد طالما كانوا مديونين لنواخذهم حتى بعد مماتهم، حيث كان الأبناء ملزومين بتسديد ديون آبائهم وذلك بالعمل على نفس السفن التي كانت نعوشاً لآبائهم وغذاء شهياً لوحوش البحر!!
حريق سوق المنامة.. استمر لعدة أيام
ومن الكوارث التي ألمّت بالبحرين حريق سوق المنامة الذي استمر لأيام وذلك في الثلاثينات من القرن الماضي ولم يكن وقتها سيارات للمطافئ لإطفاء ذلك الحريق الكبير الذي أتى على معظم دكاكين سوق المنامة وساهمت بعض المواد في انتشاره، مثل اللومي الأسود الذي كان كقنابل المولوتوف، حيث كان يتطاير وينتقل من دكان الآخر وهو مشتعل، وكذلك عمارات الأخشاب التي تخزن أخشاب البناء والدنجل والحبال والصل والودج وصل السمسم والمناقير ، كلها مواد قابلة للاشتعال، خاصة أن هذه العمارات مغطاه بالمناقير والدنجل الذي أخذ يتطاير كأوراق ملتهبة، وينتقل من مكان إلى آخر ليوسع دائرة الحريق المأساة، حيث لم يكن هناك مشاريع أو شركات تأمين لتتحمل التعويض لأولئك التجار عن خسائرهم المادية التي أكلها بكل شهية ذلك الحريق. بعد هذا الحريق يقال إن بلدية المنامة اشترت سيارة إطفاء لتواجه تلك الحرائق خاصة وأن بعض البيوت مبنية من سعف النخيل، كما إن البيوت المبنية مسقفة بالدنجل والمناقير ومغطاة بطين بوغزل الذي لا يمنع تسلل النيران إلى تلك البيوت، هكذا كانت كارثة حريق سوق المنامة الذي وضع معظم أصحاب الدكاكين والعمارات على الحديدة كما يقولون.
كارثة بيت محمد طيب خنجي
أما الكارثة الأخرى فأطلق عليها اسم سنة الزكاة، وقد وقعت تلك الكارثة كما هو مدون في سجلات الحكومة الرسمية يوم 10 محرم من العام 1354 هجرية الموافق 14 أبريل 1935م، أي يوم ذكرى موقعة كربلاء التي استشهد فيها الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، وبعض أفراد عائلته، وكان ذلك اليوم يوم كربلاء آخر في البحرين سقط فيه عدد كبير من أهل البحرين، والقصة أن تجار البحرين كانوا يوزعون زكواتهم في بيوتهم، كانوا يجمعون الناس داخل بيوتهم ويسكرون الأبواب ويتركون باباً واحداً مفتوحاً بعد ما يكتظ بالبيت كافة الراغبين في الحصول على الزكاة والتي لا تتجاوز في أحسن الحالات عن نصف روبية، في ذلك اليوم من شهر محرم جاء جمع غفير من الفقراء من المحرق والمنامة ومعظم سكان البحرين وكان النسوة يربطن ثيابهم ببعض حتى لا يتيه بعض عن بعض وعندما أغلقت الأبواب وبقيت «خوخة» الباب مفتوق لخروج المستلمين لزكاتهم حدثت الكارثة وبدأ تساقط الناس من النساء والأطفال فعندما تسقط المرأة تسقط باقي النسوة المربوطة ثيابهن ببعض فيدوسهم الذين من خلفهم، وأراد القائمون فتح الباب الكبير فلم يستطيعوا بسبب الضغط، فلجأوا إلى كسر الباب الكبير ليخرجوا الناس وبدون الحصول على الزكاة بل حصل معظمهم على الموت أو الجروح جراء التدافع ، حدث ذلك في بيت المرحوم محمد طيب خنجي في المنامة الذي تم تحويله في الستينات من القرن العشرين إلى مدرسة ابتدائية سميت بمدرسة عثمان بن عفان وكان مديرها المرحوم الأستاذ علي تقي.
ولقد تضاربت التكهنات بعد حدوث الكارثة، فقيل إن شخصاً سندياً طلب من صاحب البيت إعطاءه زكاة فرفض، فقام ذلك السندي بأخذ قبضة من التراب ونشرها على جدار البيت واختفى، وحدث ما حدث في ذلك البيت الذي شهد أكبر مذبحة في سبيل الحصول على الزكاة والتي لم تكن أكثر من أربع آنات، مساكين أهل البحرين في ذلك الزمان، جاءوا من المحرق والمنامة وبعض المناطق ليحصلوا على الأربع آنات فحصلوا على الموت.
أما الشخص السندي فهو عادة ما يكون رجل يلبس ملابس غريبة ويعلق في رقبته مجموعة كبيرة ومنوعة من المسابيح «جمع مسباح أو سبحة» ويطوف في الأحياء وتنسب كلمة سندي إلى بلاد السند ويعتبر نفسه ولياً من أولياء الله، وكثيراً ما يطوف هؤلاء في ذلك الزمان على البيوت ليحصلوا على المساعدة مقابل تلاوة الدعاء لصاحب البيت «الله يهداه المرحوم محمد طيب خنجي لو عطاه الأربع آنات لتجنب تلك الكارثة؟ « لكن الأعمار بيد الله، وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
مرض الجدري يحصد حياة البحرينيين
أما الكارثة الأخرى وليست الأخيرة فهي سنة الجدري كوارث عدة واجهها البحرينيون ولكن كان الله ينصرهم عليها وتبقى البحرين دوماً عروس الخليج، وتتخطى حفر الموت ودهاليزه المظلمة ليشع فيها نور الحياة وتنتفض كما تنهض العنقاء من الرماد. ففي العام 1939/1940 و1041 حط على أرض البحرين مرض الجدري بشكل وبائي، بعدما كان في سنوات سابقة يصيب البعض ولكن بشكل عادي لا وبائي، وكان سلطات الصحة في البحرين تقوم بالتطعيم لبعض أبناء البحرين في مناطق البحرين التي يكتشف فيها المرض وتسمى الحملة «بالتوتين» بدلاً من التطعيم، وعندما يتورم المكان الذي فيه التوتين من الجسد وعادة ما يكون في الكتف يعتبر ذلك توتيناً ناجحاً حيث يستعد الجسد لمقاومة وباء الجدري، ومادة التوتين أو التطعيم هي من سائل وباء الجدري المخفف الذي يحفز كامل الجسد ليكون في إمكانه مقاومة المرض قبل أن يبتلى به الجسد، لكن في تلك الأعوام التي ذكرتها انتشار المرض كان رهيباً دخل معظم بيوت البحرين، فقد البعض أبصارهم وتشوهت وجوههم وفقد البعض الآخر حياتهم وقامت السلطات الصحية بحملة تطعيم كثيفة وأوجدت مكاناً لعزل المرضى سمي « بالكرنتيله « في جزيرة أم الشجر بالمحرق، لكن الأهالي خافوا عليهم فأخذوا يخفون مرضاهم عند أقاربهم في المناطق التي لا يوجد فيها مرضى الجدري في المدن أو القرى لجهلهم بأهمية العزل، وحدثتني زوجة خالي إنها أحضرت أحد أقاربها من فريق الفاضل ليلاً بلباس امرأة حتى تخفيه عن الأنظار، وكانت إصابته شديدة، فعرفت جدتي بوجود هذا المصاب في بيتنا بفريق الذواودة من المنامة، فأجبرت جدتي زوجة خالي على نقله فوراً من البيت حتى لا يصاب من في البيت من أطفال وكبار، فاضطرت زوجة خالي إلى إعادة ذلك المصاب إلى بيت أهله وأنقذت جدتي رحمها الله كل من في البيت من الإصابة بذلك المرض الخبيث.
نعم هكذا مرت البحرين بتلك الكوارث التي تخطتها بكل صبر وشجاعة وإيمان بقضاء الله وقدره، وستبقى كذلك إن شاء الله صامدة أمام كل الصعاب ومنتصرة على كل المحن عصية على كل طامع بعون الله.