كتب - عبدالله الذوادي:
البحرين شأنها شأن شقيقاتها العربيات تقدس الأولياء الصالحين، تبني لهم الأضرحة وتكسوها بمظاهر الوقار والتبجيل والرهبة، تقدم لها النذر والقرابين، لاعتقاد الناس بمكانتهم الجليلة عند المولى عز وجل.
كان الأولون أكثر تقديساً لأضرحة الأولياء قياساً بواقعنا المعاصر، يزورونها ويقدمون لها النذر، مثل الأضرحة الموجودة في القرى وبعض الجزر في عرض البحر، ورغم صعوبة الوصول إليها وخاصة الواقعة منها في الجزر وعدم ربطها بالطرق البرية، إلا أن طالبي الحاجات استخدموا السفن الشراعية واستغرقوا ساعات طويلة للوصول لموقع الضريح، فكل الصعاب تهون عند ضريح يشفي العليل ويفك العقد ويحلحل خلافات الزوج وزوجه.
في هذه السطور نجول على خمسة أضرحة لما يعتقد أنها أضرحة لأولياء البحرين الصالحين، كان الأهالي يقدسونهم، وينذرون لهم لكسر العقم عند النساء أو الاستشفاء من مرض عضال أو الحصول على وظيفة، وما أن تتحقق الأمنية لصاحب أو صاحبة النذر حتى يبادر بتأدية نذره، وإلا فقد وظيفته أو عاوده مرضه أو فقد مولوداً قضى عمراً بانتظاره.
ضريح الأمير زيد
يوجد ضريح الأمير زيد في قرية المالكية، وهو على ما أذكر لدى زيارتي له وأنا طفل لم أتجاوز الخامسة من العمر، كان يشغل غرفة مستطيلة سقفها مدبب على شكل قبة، ولا أدري إن كان الضريح لايزال على شكله المعماري القديم أم تغير، فقد مضى على الزيارة أكثر من 65 عاماً.
أذكر أن زوجة خالي وهي بمثابة والدتي نذرت إذا كبرت وتعلمت وأصبحت «كراني» أي كاتب وليس عاملاً وبراتب جيد، أن تؤدي نذراً للأمير زيد.
كان زوار ضريح الأمير زيد معظمهم يأتون إليه عن طريق البحر من المنامة أو المحرق أو الحد، يخرجون في الصباح الباكر ولا يصلون إلا عند الظهيرة، ويعودون بعد أداء النذر عند صلاة العشاء، لأن عملية المد والجزر تحدد موعد العودة.
عند العودة بحراً يتعرض الزوار أحياناً لحوادث طارئة، تفتح باباً واسعاً للتخاريف والأقاويل، ويتساءلون إن كان أحد الزوار أخذ شيئاً من مقتنيات الأمير زيد بالخطأ أو نسي شيئاً دون أن يضعه على الضريح مثل زجاجة طيب أو بخور فتسبب ذلك بغضب الأمير وحنقه.
يبدأ الجميع بعملية تفتيش لجفرانهم أو «خرايطهم» إذ لم يكن وقتها من يملك شنطة، كما هو الحال الآن، ويبدأون برمي أغراضهم في البحر وكل ما وجد في جفيرهم ولو كان عود مشموم علق بالخطأ، ومع ذلك لا يستقيم سير «اللنج» أو «الجالبوت» أحياناً، وتدم «الجالبوت» في قاع البحر ومن عليها ويتعالى عندها الصياح والصراخ وتستنجد النسوة بالأمير زيد ولكن «لا حياة لمن تنادي».
النبيه صالح
اعتاد البحرينيون أن يسموا جزيرة النبيه صالح بجزيرة النبي صالح وفيها الضريح، والنبيه صالح أحد الأولياء دفن في الجزيرة الواقعة بين سترة وأم الحصم في خليج توبلي، وكانت ضمن جزر البحرين الخضراء التي تغطيها النخيل بفضل عين مياه عذبة عند مدخلها الشرقي تتدفق على مدار الساعة تسمى «السفاحية»، يؤمها الكشاتة ويبيتون فيها إذا كانوا رجالاً، والبركة بعيدة عن سكن الأهالي حيث الجزيرة مأهولة وفيها مدرسة كان المعلمون يذهبون إليها بالسفن الشراعية «الجالبوت».
أما الكشاتة وأصحاب النذور يأتون إلى ساحل بوغزال بالباصات وينتظرون المد، ثم يركبون السفن فتقلهم إلى الجزيرة عبر خليج توبلي، ويتعرضون أحياناً لتيارات بحرية يطلق عليها المغص أو التنور وتتعرض هذه «الجو البيت» أو «الشواعي» للغرق ويموت البعض ممن لا يجيدون السباحة، وعادة ما تهب سفن دوريات الشرطة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ركاب «شواعٍ» لا بديل لها.
وتكثر الرحلات إلى الجزيرة في مواسم الصيف وقليلاً في الشتاء لسببين، برودة الجو الذي لا يسمح لأحد بالاستحمام في عين السفاحية وارتفاع الأمواج وإعاقتها الإبحار في الخليج.
عانى سكان الجزيرة، إلى أن بني جسر المنامة ـ سترة الذي يعرج على جزيرة النبيه صالح فسهل على الجميع الوصول إلى ضريح النبيه صالح لزيارته، وسهل على الأهالي الانتقال إلى أسواق المنامة بالسيارات لبيع منتوجاتهم الزراعية وصيدهم من الأسماك، وسهل على المدرسين الوصول إلى المدرسة بباصات وزارة التربية والتعلم، ومكن أصحاب النذور من ارتياد الجزيرة بالباصات، ويسر لسكان الجزيرة الاستمتاع بمباهج الحياة مثل الزواج من بنات المدن أو باقي القرى والذهاب إلى المصحات للعلاج والتداوي، بعدما كانوا معزولين عن الحياة الاجتماعية في المدن.
لكن إذا وفر الله لهذه الجزيرة رغد العيش والاستمتاع بمباهج المدينة وزيارة الأقارب في المدن لتوفر المواصلات بل والحصول على الوظائف والأعمال الأخرى، حرمت الجزيرة من بركة «السفاحية» بعد أن تغير جمالها وأصبحت مكباً للقمامة وبني عليها في ساحلها الشمالي الشرقي نادي ضباط قوة دفاع البحرين، وفي مدخلها الشرقي الذي يربطها بالجسر بني مركز للشركة، لكن مكانة النبيه صالح ظلت محفوظة يجلها كافة أبناء البحرين.
الشيخ إبراهيم «صعصعة»
ضريح هذا الشيخ يقع على جزيرة صغيرة في البحر جنوب شرق قرية عسكر، يذهب إليه أصحاب النذور بالسفن واللنجات، يأتون من كافة مناطق البحرين ومدنها وقراها وينذر عند تلك الجزيرة الصيادون، خاصة صيادو عسكر وجو والدور.
أذكر في عام 1947 ذهبت مع إحدى قريباتي لتأدية نذر إحدى نسوة الحورة، ركبنا في اللنج من جسر الشيخ حمد وأبحرت الجالبوت متجهة جنوباً، وكان البحر راكداً والأمواج هادئة ما شجع النسوة على الطرق على الصواني والغناء، ووصلنا «صعصعة» حوالي العاشرة، ونزلنا على الجزيرة وأدخلت صاحبة النذر الطيب والمشموم وماء الورد وطافت بصاحب النذر حول الضريح، ووضعت قطعة قماش حرير خضراء على الضريح مع بعض النقود إكراماً لصاحبه.
بدأت الطباخات في تجهيز وجبة الغداء، إلى هنا كانت الأمور تسير على أحسن ما يرام، أكلنا العيش واللحم وشربنا شاي الدارسين والقهوة والقدوع وحانت ساعة العودة، ركبنا اللنج وتحركت المكينة وبدأت بعض النسوة بإطلاق الزغاريد فرحين مبتهجين بأن الله من عليهن بتأدية نذرهن وتمكنت أخريات بإطلاق نذورهن، إحدى العانسات إن رزقها الله بابن الحلال لتأتي بكافة الحاضرين على خروف أملح كرامة لصاحب الضريح، وأخرى نذرت إن من الله عليها بمولود لتأتي إلى الضريح بكذا وكذا.
المهم أبحرت اللنج وابتعدت حوالي ثلاثين متراً حتى تغير الحال وبدأ هيجان البحر وبدأت الأمواج تتلاطم وتغير الفرح إلى نكد وهلع، وصرخ النوخذة «إذا أحد منكم أخذ شيئاً من المسجد فليرمه في البحر» وصرخت امرأة بأعلى صوتها «هناك امرأة على الجبل عودوا إليها» وأجابها النوخذة «هذه جنية لا تلتفتوا إليها.. إنها حارسة الضريح».. كانت قوة بصري في أوجها لم أر لا جنية ولا خيال جنية إنها تخرصات يبعثها الخوف.. المهم سارت اللنج وسط أمواج عاتية بين عويل وبكاء وصراخ، واللنج تتمايل يمنة ويسرة، وبدأ البعض يتقيأ حتى لم يبق في بطونهم شيء مما أكلوه من الغداء اللذيذ.
وما أن وصلت اللنج شرق مرفأ بابكو بسترة حتى ازدادت الأمواج ارتفاعاً وزاد الصراخ والعويل وظلت الأمواج تتقاذف السفينة حتى الساعة العاشرة حين وصلنا جسر الشيخ حمد، وما زاد الطين بلة، عدم وجود الباص الذي يقلنا إلى الحورة، وكما يقول المثل «طقيناها جعب» مشياً على الأقدام، لم يكن بمقدور أرجلنا حمل أجسادنا المنهكة، وتكبدنا المشي من بداية جسر الشيخ حمد وسط رأس الرمان إلى فريق الذواوده ثم التيل ودخلنا الحورة، وبعد كل التعب والإرهاق ولم يمض أسبوع على أداء النذر حتى أودع صاحبه دار القرار وودع الدنيا ودخلت زوجته العدة وأصبح هو في دار الآخرة.
الشيخ ميثم
ضريح الشيخ ميثم يقع على مقبرة من أم الحصم في مسجد جميل في تلك المقبرة، والشيخ ميثم كان من أدباء البحرين الأوائل شعراً وثقافة وعرف في زمانه بغزارة أدبه وثقافته وعلمه، وكان من أبرز مثقفي زمانه، كان رجل علم وثقافة آخر من كتب عنه بتوسع الدكتور محمد بن جابر الأنصاري مؤخراً، وفي فترة تولي محمد بن إبراهيم المطوع وزارة الإعلام، أقامت الوزارة احتفالية ضخمة في مجمع المعارض حضره لإحياء بعض الفعاليات الثقافية وإلقاء بعض الأشعار والقصائد الفنان المصري محمود ياسين، وما يتمتع به من إلقاء جميل بصوته الجهوري الجميل وإجادته لملافظ اللغة العربية، ولقي استحسان الحضور من قبل جمهور المثقفين العرب ممن حضروا من مختلف الدول العربية.
وللشيخ ميثم حكايات وطرائف ضمنها الكتب التي كتبها بنفسه أو التي كتبت من قبل معاصريه سواء من البحرينيين أو من قبل كتاب دول الجوار، حكايات تمتاز بالمتعة والطرافة.
ومن الطرائف التي ذكرت للشيخ ميثم أن أحد الولاة، ويقال إنه والي البصرة أو أحد وجهائها دعاه ليستضيفه، فذهب ملبياً الدعوة، وعندما وصل أدخل في بهو كبير مليء بوجهاء القوم وأجلس مع البسطاء قرب البوابة، ولم يعره الوالي ولا حراسه ولا مرافقوه أي اهتمام، فحز في نفسه هذا التجاهل لشخصه.
سرعان ما نهض وخرج من مكان الوليمة والغيظ يتملكه، ثم عاد بعد برهة مرتدياً حلة جميلة وملابس «كشخة» وعباءة موشاة بخيوط الذهب، ودخل البهو، فنهض الجميع بمن فيهم الوالي وكبار ضيوفه مرحبين بالشيخ ميثم وأجلسوه في صدر الوليمة محاذياً الوالي ودعي لتناول الطعام، فما كان منه إلا أن غمس كم جلبابه في ماعون المرق فاندهش جميع الحضور من هذا التصرف، وأخذوا يتساءلون، أهذا هو الشيخ ميثم الشهير بعلمه وثقافته؟ فرد عليهم قائلاً، نعم هذا هو الشيخ ميثم، عندما جئتكم بملابسي المتواضعة لم يعرني أحدكم بالاً حتى الوالي المبجل تجاهلني وكأنني لم أكن، لكن عندما خرجت وعدت بهذه الملابس الجميلة رفعتم مقامي ونهض الجميع لاستقبالي بكل حفاوة هي للملابس وليست لشخصي المتواضع فلتأكل الملابس هذه الأطعمة وهذه الفواكه، فمعدتي لم تتعود على هذا النوع من الأطعمة الفاخرة، ونهض ساخراً من القوم وعاد من حيث أتى.
للشيخ ميثم مكانة لدى أهل البحرين وضعوه في منزلة الأولياء وأصحاب المقامات الرفيعة من رجالات الدين، وأخذوا ينذرون عند قبره ليفوزوا ببركاته وتتحقق أمنياتهم، ولأنهم أصحاب نوايا طيبة فكثيراً ما تحققت لهم أمنياتهم واستجاب الله لطلباتهم.
الخضر عليه السلام
الضريح الخامس هو ضريح الخضر عليه السلام، ويقع غرب سينما أوال قبل تشييدها، ذلك الضريح الذي استغله أحدهم فجعله نهاراً مزاراً ومكاناً للنذور وتقرباً إلى الله يأتيه الناس من كل أنحاء البحرين لاعتقادهم أنه ضريح الخضر عليه السلام، لكن في النهاية يقبض على ذلك الدجال الذي استغل المكان وحوله نهاراً لكسب المال والعطايا وليلاً إلى وكر لبيع المخدرات والقصف المجون.
بقي الموقع مزاراً وليس بضريح وهو في عرض البحر غرب جزيرة المحرق «الساية»، ينذر فيها أهل البحرين ويأتونه من كل حدب وصوب، يقيمون في أحد مساجد البسيتين أثناء المد، ويذهبون بالهدايا والغذاء عند الجزر، وعلى تلك الأرض الصخرية آثار قدم إنسان يعتقد بأنها قدم موسى أو قدم الخضر عليهما السلام. المهم أن الأثر القديم على الصخرة في الساية جعلها مزاراً ومكاناً مباركاً ينذرون عليه ويقدسونه لإيمانهم وتمسكهم بالدين الإسلامي.