كتب ـ علي الشرقاوي:
التشكيلي والفوتوغرافي عزيز زباري، فنان يعرف كيف يتوقف عن الحركة متى أراد، هو دائم الفعل.. ويتشارك مع الآخرين مشاريعهم الفنية لتعميم الفائدة على أوسع نطاق من جمهور المتلقين.
في فريج الفاضل، أو كما يحلو لقاطنيه أن يسموه «رئة المنامة»، نشأ عزيز زباري في فضاء مفتوح على كل الأجواء والديانات والألوان واللغات، كان الفريج بالنسبة إليه بمثابة مدينة بابل بتاريخها العريق، فكل ما يتحرك في العالم من أفكار واجتهادات يمكن أن تجد لها أثراً في هذا الفريج دوناً عن باقي الفرجان.
الحياة من بابين
يقول الفنان عزيز زباري في لقاء أجراه معه الروائي والفنان الفوتوغرافي حسين المحروس ونشرته جريدة الوقت «جئت مع أكبر حريق في المنامة سنة 1936، ولعل كل هذه الحرارة في داخلي منه».
ولد عزيز زباري في بيت أشبه بقلعة ببابين الأول مخصص للنساء لا يدخل منه الرجال، والثاني للرجال تخشى النساء دخوله «في بيتنا بئران، وجدرانه بيضاء من الداخل تزينه مرايا مستطيلة، جلبها أبي من الهند، عليها رسومات زاهية، وأسماء آل البيت الإمام علي والحسن والحسين وفاطمة، ونوافذه منقشة وزجاجها ملون عليه رسومات، مع بوابة كبيرة واسعة، في وسطها باب صغير لدخول الأفراد فقط، يسمونه (فرخة) لصغره».
نشأ في حي يعيش على البحر كل لحظة «في حي الفاضل بالمنامة ، اسمه يعني الحي المنيع، لا يدخله الأغراب ولو مروراً، وعندما يجرؤ أحد على المرور يتم إيقافه ومساءلته عن كل هذه الجرأة! الحي منفتح على البحر لكنه ليس منفتحاً على غير أهله، ليس ثمة من لا يحب البحر هنا، وليس ثمة سيرة طفل بدونه، البحر يعني عين ماء الباكر أيضاً، فالخارجون منه يقصدون ماءها الحلو، مع قربها من البحر! ويقصدها السقاؤون ليزودوا المنازل بمائها».
بُني على عين الباكر بناء يقسمه نصفين نصف للنساء وآخر للرجال، حيث يسمع الرجال أصوات النساء وتسمع النساء أصوات الرجال، لكن لا يسمح لأحد من الرجال الدخول إلى النساء «إذا ما حدث ذلك فإن هذا المخترق - غالباً - ليس من الحي! تغسل النساء الملابس والأواني والفرش لأهل بيتها، ثمّ تغتسل قبل أن تغادر».
كان عزيز حينها طفلاً يسمح له بدخول القسمين معاً «هذه العين يزورها القادمون في البحر من كل مكان، والكثير من موزعي الماء (السقائين) يملؤون خزاناتهم الصغيرة منها، قبل أن يوزعوها على البيوت على أكتافهم، كل سقاي يحمل خزانين تتوسطهما عصاة تنتصف كتفيه».
كان ورفاقه يدخلون البحر، ويرمون السم على سطح الماء، ثم يعودون إلى عين (الباكر) منتظرين سريان مفعوله في الأسماك «كان البحر كله سمك بالسم نحجزه، فلا نسمح لأحد بالمرور في مائه المسموم.. نجمع ما مات من السمك ثم نغادره شاكرين، منتظرين يوماً جديداً، وعندما ينحسر ماؤه، يتحول الشاطئ إلى حديقة حشائش بحرية، فيها تبيض الأسماك وتتغذى».
في حي الفاضل حتى أكثر الإصابات والحوادث يهندسها البحر «أذكر أن مسماراً كبيراً يستخدم في بناء السفن انغرس في رجلي بينما كنت ألهو مع أصدقائي على الساحل، حملوني إلى بيتنا القلعة، ومن لا يعرف بيت علي عبد الله زباري؟ جاءت امرأة عجوز تدعى فاطمة، قالوا إنها سوف تطببني من الإصابة بأدويتها الشعبية، سلمتُ الأمر لفاطمة، فسرعان ما نسيت جرحي.. كانت السفن تأتي من كل مكان تقريباً، وفيها كل الجنسيات، لا أنسى تلك السفن الأفريقية التي ترسو في عرض البحر لعظمها، لينزل منها رجال سود في قوارب مستطيلة الشكل، يغنون حتى الساحل، يتزودون بالماء الحلو من عين (الباكر) ثم يغادرون».
الرجل السمكة
تزوج والده علي عبدالله زباري من خمس نساء لم تنجب منهن غير أمه، وثانية أنجبت له فتاة واحدة - وكان الوالد تاجر بحر والهند مصدر بضائعه «في دكانه يبيع كل ما يحتاجه الإنسان من لوازم البحر، يبيع لصيادي السمك أدواتهم، ولصيادي اللؤلؤ أغراض صيدهم، ولناقلي البضائع كل ما يحتاجون إليه».
يقع دكان الوالد وسط سوق المنامة تقريباً، وحوله مجموعة دكاكين لتجار يهود «كنت أرى النشاط في دكان أبي لا يهدأ، والبحارة وأهل السفن والغاصة لا ينقطعون عنه، والناس في السوق في قمة نشاطهم اليومي، أفرح لأني أشاهد هذا النشاط ويزيدني طرباً، تلك اللعب التي يحضرها أبي من الهند، ويبيعها في الدكان، منها مراكب خشبية صغيرة جميلة، وقد ألعب بالمسامير، أو بالثقل الذي يربطه غاصة اللؤلؤ في أقدامهم للنزول في قاع البحر، أو بسنارات الصيد (الميادير)».
في الدكان كان صباب القهوة يمر مشياً على الأقدام، منطلقاً من المقهى الشعبي في حي أبو صرة بالمنامة، طائفاً بجميع الدكاكين بالسوق «كنت حينها أذهب إلى السوق صباحاً وأعود ظهراً».
وإلى جانب تلك البضائع يبيع أبوه أهم المنتجات الفارسية مثل ماء الورد «كنت أساهم في حمل بعض بضائع الدكان، كلفني أبي مرة بمساعدة أخي أحمد في حمل قناني ماء الورد الفارسي إلى البيت فاستجبت، مررنا بها سوق الطواويش بالمنامة، وكان زجاج القناني رقيقاً جداً، لا يتحمل أي صدمة ولو يسيرة، ما جعل أخي أحمد يوصيني مرات بالاحتراس أثناء المشي، لكن ما خاف منه وقع، فقد اصطدمت إحداها بجدار أحد البيوت، وبدأ ماء الورد يسيل منها قليلاً قليلاً، لم أخبر أخي دخلت مطبخ البيت خائفاً، ووضعتها فيه لم أخبر أحداً بالحادثة».
الحب هو الحلوى
ويسترسل زباري في حديثه «في حينا الجميل لم نكن نلتفت إلى غير الحب، نلعب بفطرة الأطفال، فطرة الإنسان، كان ديننا الحب، في الحي جالية يهودية كبيرة، تعيش مع أهالي الحي دون حساسيات، كنا نلعب مع أطفالهم، وندخل بيوتهم، ونحضر احتفالاتهم الدينية، لكننا لم نكن ندخل بيوتهم يوم السبت لأنهم يصومون فيه، ولو دخلنا لا يحدث شيء، كانت بعض بيوتهم ملاصقة للمساجد، ولم يكن ثمة حرج».
لم يستمر ذلك كثيراً في سنة 1948، خرجت مظاهرة كبيرة في المحرق منددة بإسرائيل واليهود واخترقت أحياء المنامة، ووصلت حسينية «بن رجب» لتستعير أعلامها السوداء والحمراء والخضراء في المظاهرة «عندما وصلت معبد اليهود كسرت أجزاء منه، وبعض محلاتهم التجارية، التي لم تسلم من النهب، ولولا حماية المستشار بلجريف، الذي نقل معظمهم إلى عوالي، لكانت المصيبة أكبر، بعد كل ذلك هاجر معظمهم إلى الهند، وقيل إنهم نزحوا بعدها إلى فلسطين ولندن، ولم يبق منهم في البحرين إلا القليل، هذه المشاهد لا أنساها أبداً، عرفت فيما بعد من صديق الحي اليهودي فيكتور، أن الذين هاجروا إلى فلسطين تأسفوا كثيراً على مغادرة البحرين».
زباري التشكيلي
رغم أن عزيز زباري كان مدرساً للرسم في منتصف الستينات، الفترة التي كنت فيها طالباً في المدرسة الثانوية بين عام 1965 إلى 1967، إلا أنه لم يكن يدرسنا، وعملياً تعرفت عليه عن قرب نهاية عام 1967، بعد انضمامي إلى أسرة فناني البحرين كممثل، عن طريق عبدالله أحمد عبدالله الكاتب والممثل وعضو هذه المؤسسة الثقافية والذي كان يعمل كاتباً في مختبر مستشفى السلمانية الذي بدأت العمل فيه كفني مختبر.
كان من أبرز أعضاء أسرة فناني البحرين سلكان سالم وحسين أحمد حسين وعزيز زباري وحمد الدوخي وفيصل خلفان ويوسف نشابة وعلي عليان وإبراهيم بوهندي وراشد المعاودة وصفية إدريس «شاركت في اسكتش صامت قدمته الأسرة في النادي الأهلي، كفقرة من فقرات نهاية العمل الصيفي لأندية طلبة البحرين في الخارج».
ونظراً لتصدر أسرة هواة الفن التي تحول اسمها فيما بعد إلى أسرة فناني البحرين، النشـاط والـوسط الثقافي والفني مطلع الـستينات من القرن العـشرين، وفي ظل تنوع وتعدد نشاطاتها الفنية كالمسرح والموسيقى والغناء، استطاعت هذه المؤسسة الأهلية المستقلة والوحيدة من نوعها في البحرين ودول الخليج آنذاك، من استقطاب مجموعة مهمة من الفنانين والهواة، من مختلف مناطق البحرين، وتشكلت من بينها مجموعة مميزة من الفنانين التشكيليين، لتكون من تلاحمها أول نواة صلبة من التشكيليين المحليين، وكان من أهم أعضاء هذه الطليعة من الفنانين التشكيليين، عزيز زباري والمرحوم راشد سوار وإسحاق خنجي والمرحوم حسين السني وعبد الكريم العريض وراشد العريفي وناصر اليوسـف وأسامة صالح وعبدالكريم البوسطة وأحمد باقر.
استوديو يوسف قاسم
أحياناً كان يترك عزيز دكان أبيه ويسرح في شوارع وأزقة سوق المنامة «أتوقف عند ستوديو الفنان الفوتوغرافي يوسف قاسم، أو ستوديو ناشيونال أو جنرال أو أحمد عبدالله الماضي أو عبدالله مبارك.. هذه الاستوديوهات كلها في فضاء تنقلي وتجولي اليومي، عند استوديو أحمد الماضي أقف، أنظر في الصور الملصقة على زجاج واجهة المحل، وعند واجهة استوديو عبدالله مبارك علق صوراً، إلى جنبها ورقة كبيرة، كتب عليها (زوجوا بناتكم)، وكان فعلاً يقوم بتزويج الناس، لكني لا أعرف سبب تمسكه بهذا الشعار». أما الماضي فكان نحيلاً، ووجهه ممصوص الخدين، رأيته يضع رأسه تحت قماش أسود عند تصوير الزبائن.
أثر الفوتوغرافي يوسف قاسم - ابن الحي - في عزيز زباري كثيراً «كنت أراه يصنع تماثيل من الطين، ثشبه تماثيل غرناطة، لمسرحية عبدالرحمن الناص) التي عرضت في النادي الأهلي حينها، كنا ندخل بيت يوسف قاسم لنشاهده وهو يمارس عمله الفني كل يوم تقريباً، لقد حبب إلي الفنون أكثر والتصوير بشكل خاص».
كان عام 1946 ميلادية عمر المدرسة النظامية وعام رحيل تاجر البحر والده «كان نظام التعليم في المدرسة مكوناً من قسمين، الأول ويضم ثلاثة فصول الأول والثاني والثالث التحضيري، والثاني يتكون من ثلاثة فصول أيضاً تشمل الأول والثاني والثالث الابتدائي، وكان جميع التلاميذ يرتدون الثوب، ولم يكن الزي الأجنبي انتشر بعد، كنت أرى بعض الطلبة في حالة يرثى لها في المدرسة، أما أبي فكان يعطيني كل صباح مبلغاً قدره آنتين، وهو ما لا يحظى به أي تلميذ في المدرسة».
كان عدد تلاميذ الصف 23 تقريباً، كل أربعة تلاميذ يجلسون إلى منضدة واحدة، بحيث تشكل كل منضدة مجموعة مستقلة، تتنافس في الإجابة على أسئلة المعلم، أو في المسابقات الثقافية «دخل علينا بهيبته، وربما بقسوته رجل يهودي اسمه سلمان زلوف، عرفنا من اللقاء الأول أنه سيعلمنا الحساب، بدأنا بالأرقام التي نعرفها من البحر، ومن حساب موجاته، والسفن التي تسبح فوقها، كلما جلسنا عند ساحله، علمنا جدول الضرب، وهدد كل من لا يحفظه بالضرب، وسرعان ما مارس كل تهديداته عملياً فعندما لا نحفظ ما يريد من جدول ضرب أو غيره، يضع المسطرة الخشبية بين أصابع أيدينا الغضة، ثم يضغط بيده الخشنة على أيدينا، فلا يتركه حتى نبكي، ونرجو العفو منه والمغفرة! أي قسوة كانت؟!! بين هذه الجدران، وأي اتساع خارجها؟».
يبدأ اليوم المدرسي بالطابور الصباحي، وفيه يتم التفتيش على نظافة الأصابع والأظافر «كان على كل واحد منا وضع منديل من القماش تحت أصابعه، لتبدو حالتها من حيث النظافة أو غيرها واضحة للمدرس المفتش، ثم يتم النظر إلى نظافة الحذاء والثياب، ولأن أحداً لا يعرف معجون الأسنان، قدم مدير المدرسة حسن الجشي، وصفة تقوم مقام معجون الأسنان آنذاك!! وهي خلط الفحم الفارسي المطحون مع بعض البهارات ذات الرائحة النفاذة، مثل الهيل والمسمار وعندما يجهز نفرك أسناننا بالخليط».
أحب عزيز النشاط الرياضي في المدرسة، الذي كان من أقوى الأنشطة «مدرس المادة علي تقي مدرس رياضة نشيط دائماً، وأكثر الألعاب التي يقترح علينا ممارستها الألعاب السويدية، أما أشهر الألعاب المحلية التي نمارسها كل يوم، وخصوصاً في فسحة الأكل فكانت المشي على الخشب، أو المشي على براميل القمامة الفارغة، وعندما نمل ذلك يأخذنا الأستاذ إلى الماء كل صباح خميس.. يأخذنا إلى مكان ساحر في كل شيء.. إلى عين عذاري بين بساتين النخيل الكثيفة، ننزل ماءها فتضيء بأجسادنا الصغيرة».
يتدرب عزيز ورفاقه هناك على السباحة، ويجرون المسابقات التنافسية والعصافير والبلابل البحرانية تراقب «كنت غالباً ما أفوز بالمركز الأول، وفي يوم الاستعراض، يأتي المتنافسون من جميع المدارس للتباري على المركز الأول، وفزت مرة في هذا السباق، وحصلت على المركز الأول، ونلت ميدالية ذهبية، بمواصفات تلك الفترة!! ولا فضل لي في ذلك بل الفضل لبيئة البحر التي عشت فيها في حي الفاضل».
صار عزيز زباري بعدها سباحاً ماهراً دون أن يعي ذلك «السباحة ليس نشاطاً مدهشاً في حينه!! تعلقت بعين عذاري تعلقاً شديداً، لم أعرف مثله غير تعلقي بالبحر، عرفت بعد أن كبرت أنه تعلق بالماء».
أحب مادتي الجغرافيا والتاريخ اللتين يدرسهما أستاذ فلسطيني يدعى جارودي «كان ضخم الجثة كأنه الكرة الأرضية، ووجدت نفسي قريباً من الأستاذ أحمد السني، وهو يعلمني الرسم، تراءت لي جدران بيتنا البيضاء، وأخي أحمد يشعلها بألوانه الشمعية الحارة، لم يكن السني هو المعلم الوحيد الذي أخذني إلى الرسم، فمن قبله معلم رائع آخر يدعى يعقوب المتحدر أصول عراقية، وتعلمت فن الخط من الأستاذ سيد رضي ومن الخطاط البارز خليل زباري».
أسرة التصوير
في المدرسة أسس مدرس مصري يدعى سامري أسرة صغيرة، عرفت باسم «أسرة التصوير الفوتوغرافي» ويقول عنها عزيز «كنت من أوائل المنتمين إليها.. إنها فرصتي لأدخل هذا العالم الذي أرى صوره كل يوم في السوق فتذهلني، كانت هذه الأسرة صغيرة جداً، وليس ثمة مكان لها تجتمع فيه وتمارس أعمالها.. إنها مشكلة المكان في المدرسة، لم يعدم المحب الحيلة، فثمة عريش كبير جداً بجوار بيت العريض في المنامة، به مجموعة كتب وطاولات كانت المدرسة تستخدمه مكتبةً للقراءة، في إحدى زوايا هذا العريش، حجز الأستاذ سامري مساحة صغيرة لتكون أول استوديو في هذه المدرسة، جعلنا له باباً صغيراً يمكن قفله».
دخل عزيز المكان أول مرة فرأى جدرانه مغطاة بالسواد، يتدلى في وسطه مصباح أحمر «بدأنا أول لقاء في هذا الاستوديو بتلقي أول عرض نظري حول التصوير، ثم درس عملي عن عمليات تظهير الصورة وطباعتها يدوياً في أحواضها المختلفة، ولم نكن نكتفي بدروس النشاط هذه، فقد كنت أفرح بيوم الخميس، حيث تكون الفسحة أكبر للعمل في الاستوديو، كنا سبعة تلاميذ فقط مذهولين بالصورة، ننقص واحداً أحياناً». لم يكن الأستاذ يسمح لهم بممارسة التصوير، أو حتى إمساك الكاميرا الوحيدة في المدرسة، التي كانت كبيرة من نوع «كوداك» ذات فيلم مقاس 120 «لم يكن لدينا صفائح لتجفيف الصور في هذا العريش الجميل، لذا كان الأستاذ يعلق الصور على حبل خصص لهذه الغاية».
ظل اقتناء كاميرا خاصة حلماً يراود عزيز «كيف أكون قريباً من الصورة ولا ألمس الكاميرا؟ كان ذلك مؤلماً حقاً، مثل محب ولد في تجربة ممنوعة، لذا فعلت تجارتي الفنية مع نساء الحي، فكنت أشتري الورق الشفاف، وأطبع عليه رسومات هندية كانت تأتي ملفوفة على طيات القماش الهندي، أو من مصادر أخرى، بعد ذلك أبيعها على النساء اللواتي ينسجن الزخرفة والزهور على التكايا والمساند القطنية، التي توضع في مجالس النساء وفرشات العرس، هذا العمل أمن لي بعض المال، كما إننا كنا عائلة ميسورة، كان يوماً مميزاً ذلك الذي حملت أموالي باتجاه متجر أشرف بالمنامة، لأشتري أول كاميرا من نوع كودك كنت حينها في الصف السادس الابتدائي».
حمل الكاميرا فرحاً مسرعاً باتجاه الحي، يصور بها الناس والأطفال والنشاط اليومي في الحي «لم أترك شيئاً لم أصوب عدستي الصغيرة تجاهه، كان الناس يراقبونني مندهشين، لقلة عدد الكاميرات في حي الفاضل.. ماذا يفعل ولد زباري؟».
لم يدم عريش التصوير بالمدرسة كثيراً «في إحدى صباحات المدرسة انتشر خبر أزعج أعضاء أسرة التصوير، إذ وجد المدرسون باب العريش مكسوراً، ولم يبق اللصوص شيئاً في الداخل غير حبل تجفيف الصور!! أسرة تصوير بلا كاميرا وبلا مكان!! وعندما التقيت الأستاذ السامري في الستينات - وكنت حينها مدرس في المدرسة ذاتها - ذكرته بحادثة سرقة عريش التصوير فضحك».
عشق الكاميرا
إنّه الفجر يتنفس على حي الفاضل بدءاً من البحر، يركب عزيز دراجته الهوائية وكاميرته على كتفه ويتجه إلى عين عذاري «في الطريق تحرسني النخيل، ويراقبني ماء عذاري حتى أصل ينبوعها.. هنا علي أن أحترم كل هذا السكون.. النخيل يلف العين من كل الجهات.. ضباب صباحي هش عند أعناق النخيل، كأنه يسر لها خبر الماء والعصافير، من أين يأتي كل هذا الماء؟ من أين يأتي كل هذا الجنون؟ أنزل الماء، أسبح فيه حتى ارتفاع قرص الشمس.. صورت عين عذاري منذ أن حملت الكاميرا.. صورتها وأسماكها، وسلاحفها، وتهافت الناس عليها، دهشة الزائرين، صورت عذاري وهي تسقي البعيد، وتهمل القريب.. آخ صورتها وليتني ما فعلت!! تركت في قلبي غصة!! كلما هممت بالذهاب إليها».
لم تبق عين ماء لم يصورها في البحرين «صورت عين قصاري والأنشطة التي تدور حولها.. رجال يغسلون حميرهم، وبيوت السعف حول الماء.. مجرى عين قصاري بين أشجار السدر، متجهاً نحو بساتين المنامة، يحمل ود وجوه قرية البلاد القديم إلى الآخرين».
أنهى عزيز الصف السادس، فعمل في شركة النفط «بابكو» لمدة سنة واحدة أو أقل «ثمة أمر آخر لم يحبب البقاء في هذه المهنة كان صديقاي حبيب منصور العريض، وصالح علي العريض، يعملان في التدريس، في فترة نُعتت فيها شركة بابكو بأنها شركة استعمارية.. قدمت استقالتي إلى إدارة الشركة فرفضت لحساسية عملي في غرفة مراقبة عمل الأجهزة، وضغط السوائل والأبخرة، عقدت الإدارة المسؤولة اجتماعاً ضم الأساتذة عمر الرميحي، وحسن غيث، وشخص يُدعى عبد الغفار وغيرهم، كان الاجتماع بقيادة الخبير الأجنبي مستر لوك، أحضروني في غرفة الاجتماع وسألوني عن أسباب الاستقالة، فاضطررت إلى الكذب، قلت لهم أهلي في الكويت وأنا أعيش مع خالي هنا.. أهلي يرغبون في التحاقي بهم!!! قال لي عبد الغفار شوف يا ولد زباري.. إذا عدلت عن فكرة السفر فنحن في حاجة إليك، قلت له حاضر سلمتني الشركة كافة حقوقي المالية، غادرت الشركة فتعينت مدرساً بمعارف حكومة البحرين، وأرسلت إلى مدرسة المعامير الابتدائية، التي أسستها شركة بابكو نفسها!! وتكفلت بمصاريفها في تلك الفترة».
وفي يوم وبينما كان يشرح للطلبة مادة تاريخية عن حمورابي وهانيبال، ويرسم على السبورة الطويلة ط»انتبهت إلى وجه تبحلق عيناه في وجهي باستغراب، انفتح الباب أكثر فدخل 3 رجال بينهم عبدالغفار، قال لي ما لم أنسه حتى الآن أفه يا ولد زباري يا العفطي؟! (العفطي صغير السمك)، توقف عبد الغفار ليشرح للشخصين اللذين معه كيف كذبت على الشركة وهم يضحكون، لم أستمر أكثر من سنتين في مدرسة قرية المعامير، بعدها نقلت إلى مدرسة السلمانية لنشاطي الملحوظ، في السلمانية لم استمر كثيراً أيضاً، فقد حدثت بيني وبين مديرها منازعات، نقلت إثرها إلى المدرسة الثانوية الوحيدة في البحرين سنة 1960 وهي مدرسة المنامة، التي يأتيها الطلاب من جميع أنحاء البحرين، وفي سنة 1962 عُينت مشرفاً إدارياً من قبل مديرها عبدالملك الحمر، كنت مشرفاً على أول لقسمي العلمي والأدبي في البحرين، وإلى جانب الإشراف الإداري كنتُ أدرس مادة الرسم، وكنت مهتماً كثيراً أن يرسم الطلاب طبيعتهم، وبيئتهم ليتعرفوا عليها أكثر، ويقتربوا منها. كنت انطباعياً أكثر من أي شيء آخر».
كثيراً ما أحضر بعض الفواكه ليرسمها الطلبة في الصف، وهو الرسم المعروف بـ(Stile Life) «لكني للأسف لم أفعل التصوير الفوتوغرافي في المدرسة، واقتصرت على تصوير بعض الطلاب والمعارض السنوية».
في تصوري أن الفنان الكبير عزيز زباري ذاكرة خصبة تحتاج إلى العديد من اللقاءات المصورة والمسموعة والمرئية، للحصول على الحيوات التي عاشها المجتمع البحريني منذ الثلاثينات إلى يومنا هذا، فهو إضافة إلى امتلاكه سعة ذاكرة، يملك آلاف الصور يمكن أن تغطي مساحات شاسعة من المناطق التي اندثرت أو في طريقها إلى الاندثار، وتحتاج اليوم إلى أن تتولى وزارة الثقافة طباعتها ونشرها على أوسع نطاق ممكن ليستفيد منها الباحثون في تاريخنا الحديث، وتعطي للجيل الجديد صورة بانورامية عن كيفية حياة الآباء والأجداد.