كتب ـ عبدالرحمن محمد أمين:
في مدينة الحد وتحديداً بقلبها النابض فريج البوفلاسة، نشأ بدر الحمادي وترعرع، وهو رغم كر السنين مازال يحتفظ بذكرياته عن المدينة الوادعة وهي ترتمي بأحضان الخليج.
قضى الحمادي 28 عاماً يعمل بوزارة الداخلية، قبل أن يتقاعد برتبة مقدم وهو يزين صدره بخمسة أوسمة، وبعد أن انتظم بالعديد من الدورات التدريبية، ونال الكثير من الشهادات المحلية والدولية.
لا يخفي الحمادي عشقه للبحر ولمدينة الحد وسكانها، كما لا يخفي هواياته المتعددة في صيد السمك والطيور الأليفة والجارحة، ولشدة تعلقه بالطيور أسمى ولده البكر صقراً.
في معنى «الحد»
يبدأ بدر بنبش دفاتر ذكرياته «كانت مدينة الحد من أوائل المدن افتتحت فيها مدارس للأولاد والبنات، منها مدرسة الحد الابتدائية للأولاد ومدرسة البنات الابتدائية الإعدادية».
اسم مدينة الحد يعني أرض تتغلغل وسط البحر وتمتد كلسان إلى داخله، وتظهر بصورة شبه جزيرة صغيرة «في اللغة العامية الدارجة عند أهل البحرين قديماً، الحد عبارة عن رمال ممتدة من ساحل معين إلى وسط البحر، وهذه الرمال تمنع السفن من الإبحار في هذه المناطق، سواء كان البحر (قراح) أو (ثبر)، واسم الحد أطلق على عدة مناطق في البحرين لا يحضرني إلا القليل منها مثل حد الجمال».
الحد شتاءً
يقول الحمادي إن سواحل الحد كثيرة والبحر يحيطها من عدة جهات، لذا اتخذ أبناء الحد مهنة الصيد والغوص مصدر رزق لهم «كان الأطفال يتخذون من الحضور ملاذاً للعب في الصيف، أما في الشتاء وعند هبوب الهواء خصوصاً التيارات الشمالية كان البحر يفيض، وترتفع أمواجه وتبدأ من شدتها والرياح تدفعها بغزو البيوت الرابضة على امتداد خط الساحل».
ويسمي أهل الحد هذه الحالة «تشيع الماية» من السواحل «اليوم بدأت هذه الظاهرة في الانحسار بسبب التوسع العمراني وابتعاد البحر عن المناطق السكنية وتقلص مساحته عن ذي قبل».
كانت الحد تنقسم إلى قسمين شرقي وغربي، ويفصلهما شارع يسمى الشارع الوسطي، وطرقاتها ضيقة يطلق عليها بالعامية دواعيس، وتسكن العوائل وتبني دورها على جانبي الطرق الضيقة أو على الساحل».
أول بنك
أول بنك يفتتح في الحد هو «البنك البريطاني للشرق الأوسط» ويضيف الحمادي «كلما أتذكر المساجد المنتشرة في الحد أتذكر الآذان الجميل، وأتذكر رجال الفريج وهم بطريقهم إلى المسجد والمسابح بأيديهم وذكر الله لا يفارق ألسنتهم.
ويتذكر بدر الحمادي حواره مع الراحل صالح بن سعود الجنيد الحمادي، عندما بادره بالسؤال «هل أنت ولد القطنه؟ أم ولد الهيب؟»، كان كلامه درراً يحمل معاني كبيرة.
أدرك -رغم صغر سني حينها- أن الرجل راجح العقل وذو خبرة طويلة.
قال بدر: أنا ابن الهيب.
قال الحاج صالح: وكيف تفسر ذلك؟
قال بدر: أنجبتني أمي بالبيت.
ضحك الحاج صالح وقال «نعم نعم نعم وضرب بيده على جدار منزل والدي سلطان وهو يردد صادق يا بوسلطان، نعم هذه الدار شاهدة على مولدك».
وأكمل «يا وليدي هذه المعلومة قد لا يعلمها الكثير من أبناء البحرين، وهي أن ابن الهيب يولد بالمنزل، وابن القطنة من يولد على سرير المستشفى».
النشأة الأولى
بدر سلطان علي حسن أحمد عبدالله الحمادي، هو الأخ الأصغر بين أربعة إخوة أكبرهم عبدالله سلطان الحمادي الشاعر والأديب، علي سلطان الحمادي أول رئيس لنقابة عمال البحرين، البروفسور عبدالعزيز سلطان الحمادي أستاذ محاضر بجامعة البحرين اختصاص رياضيات.
بدر من مواليد 1960 بفريج البوفلاسة بمدينة الحـد، أكمل المرحلة الابتدائية في المدرسة الجنوبية، والإعدادية بالمدرسة الشمالية، أما الثانوية فكانت بمدرسة الهداية الخليفة بالمحرق، وتخرج سنة 1977 بعد رحلة دراسية جميلة ذاكرتها مازالت تدغدغ مشاعره.
يكمل بدر الحمادي الحديث عن حياته «كانت أمنيتي أن أصبح ضابطاً بالشرطة أو الجيش، العسكرية كانت مسيطرة على أفكاري منذ نعومة أظافري، كانت البحرين في تلك الفترة تعد أبناءها لمستقبل مشرق ومشرف وتبعثهم للدراسة بالخارج».
تقدم بدر لوزارة الداخلية وقبل فيها وابتعثت إلى الكويت «أمضيت 3 سنوات بالدارسة إلى أن من الله علي بالنجاح والتوفيق، وتخرجت سنة 1979 وحصلت على دبلوم علوم الشرطة والقانون».
ومن زملائه الخريجين يذكر «العميد المتقاعد الشيخ خليفة بن حسن بن إبراهيم آل خليفة وكيل وزارة الداخلية سابقاً، ووزير شؤون الداخلية حالياً اللواء عادل بن خليفة الفاضل».
رحلة الدراسة
يقول الحمادي عن علاقته بالدراسة «حصلت على دبلوم في القانون وعلوم الشرطة من كلية الضباط والشرطة بالكويت، ودبلوم في التنمية الوطنية من الصين أكاديمية فوشن كو، وخضعت لدورة الأمن التقدمية في الأكاديمية الملكية الأردنية، ودورة القيادة الأمنية الدولية العلياء في بريطانيا كلية برومس هيل الأكاديمية البريطانية للشرطة، ودورة تدريبية في برنامج الإعلام المباشر في الصحافة والإعلام والإذاعة والتلفزيون بإشراف BBC البريطانية، وشهادة الأكاديمية العلمية في العدالة الجنائية والإدارة بالشرطة من جامعــة ليستر البريطانية، وشهادة أساليب التفاوض مع الخاطفين الأولى من أكاديمية العلوم الأمنية السعودية».
وبخصوص التحصيل العلمي والأكاديمي من داخل البحرين، حاز بدر الحمادي العديد من الشهادات بينها، شهادة في المهارات الإدارية الحديثة من جامعة البحرين وأخرى في العلاقات العامة، وشهادة في إدارة مكاتب كبار المسؤولين من ديوان الخدمة المدنية، وشهادة الميكروسوفت، وشهادة متعددة في الأمن الصناعي والسـلامة، ودورة تدريبة في إدارة الجودة من ديوان الخدمة المدنية، وشهادة في شؤون الأفراد وتنمية الموارد البشرية من جامعة البحرين، وامتدت خدمته بوزارة الداخلية نحو 28 عاماً، قبل أن يتقاعد سنة 2005 برتبة مقدم وهو حاصل على 5 أوسمة.
ويواصل الحمادي حديث الذكريات «شاهدنا جمال البحر والجزر المحيطة بمدينة الحد قبل أن يصلها الزحف العمراني، كان البحر يحيط بمدينة الحد من الشرق والجنوب والغرب، سواء في (ماية الهلال) أو عند هبوب الرياح القوية و(تشيع الماية)، أي تفيض مياه البحر وتدخل فرجان الحد وبيوتها ودواعيسهــا».
ذكريات لا تنسى
ذكريات بدر الحمادي مع البحر كثيرة ولا تنســى «عندما تثبر الماية نأخذ التريك، وهو نوع من المصباح يعمل على الكيروسين (الفنر) وندخل البحر، وبما أن الفنر يبعث نوراً ساطعاً، فإن السمك يصاب بالشلل ونصطاده باليد، وخاصة الصافي والينم وأنواعاً كثيرة أخرى، كانت متعة لا تضاهيها متعة».
ويتابع «في سواحل الحد تجد الماء الحلو وسط البحر، حيث كان يوجد بالبحر ما يطلق عليه بالكوكب، وهو عبارة عن نبع ماء حلو وسط البحر، وكانت تسمى بأسماء مثل أم السوالي وبو قلم، أما الجزر فإنها تنتشر عند السواحل مثل بوشاهين من الشرق وجزيرة أم الشجر».
وكانت والدته من سكنة جزيرة أم الشجر، وكانت تمتاز بمياهها العذبة وتنبت فيها أشجار الفاكهة مثل العنب والتين والرمان واللوز والكنار وأنواع من النخيل «كان بها مسجد يرفع فيه جدي الآذان، قبل هدم المسجد وبناء آخر جديد بعد أن طال الدفان الجزيرة وأصبحت من ضمن أراضي الحد، وكان القاطنون بجزيرة أم الشجر يتنقلون إلى منطقة رأس الماشية جنوب الحد عن طريق القوارب أثناء المد، وعند الجزر فإنهم يتنقلون مشياً على الأقدام عبر خور بو ماية والنقعة السريعة».
وهجر آخر سكان الجزيرة بالخمسينات حسب ما ذكرته الوالدة، واستقروا في مدينة الحد بعد وصول الكهرباء والماء إلى البيوت.
ومن الجزر الجميلة المؤهلة كذلك جزيرة العزل وحالة العزل، وشاهدت آخر رجل يقطن جزيرة العزل وهو خليفة السيد.
الهوايات
من أحب الهوايات لدى بدر الحمادي هي صيد الطيور «كنت أمارس هذه الهواية بأدوات بسيطة مثل الفخ والجزة من الشباك وأسياخ الحديد، كانت هناك مواسم للصيد منها موسم الطيور المهاجرة (الفله) حيث تتواجد أنواع من الطيور منها المدقي، المخضرم، الفقاقة، المرعاد، الصعو، الزيان، أم مليفع وغيرها، أما في موسم طيور الجوارح فتكون الطيور الحمامي، الرماني، القفصي، الجتبي، الحيسني، الشرياص، ولشدة تعلقي بالطيور أسميت ابني البكر صقراً».
كانت طريقة الصيد «الحبال» بدائية جداً يشرحها الحمادي «حيث نضع في الفخ العتل دودة التراب أو العنيوش وغيرها، بينما نضع للطيور الجارحة طائراً حياً صغيراً يربط خلف الجزة وبمواجهة الرياح، حيث كانت أشجع الطيور الجارحة تصطاد بهذه الطريقة».
«الحبال» واحدة من عدة هوايات مارسها بدر «في صغري كنت ألعب التيلة، الدحروي، الصعقير، وصيد السمك بالزراقة، كنا نصنع نوعاً من السم للسمك، عبارة عن خلطة بذور مع الكيروسين ونوع من الشرايب ونرميه في البحر، وبعد فترة يطوف السمك على سطح الماء».
كانت مدينة الحد تعج بالدكاكين المتنوعة «منها دكان سعود الخثلان، وكان هناك دكان لألعاب الأطفال صاحبه يدعى الشيخ علي، ودكان صالح البورشيد، ودكان أحمد جكرو وحمد الصقر ودكان مندي، ولا ننسى دكان أحمد يوسف».
ذكريات جميلة محفورة في العقل منها حفلات الأعراس «كانت تقام في منزل أهل العروس، ويزين الباب بسعف النخيل والمصابيح الملونة تبعث على الفرحة، وعندما يأتي المساء ننتظر زفة المعرس (العاشوري) و (العرضــة) وغيرها».
ويتابع الحمادي «افتتح نادي الحد الرياضي الثقافي عام 1945، وانتقلت حفلات الأعراس إلى النادي».
ويضيف «مصلى العيد كان يقع شمال مدرسة الحد الشمالية، ومظاهر العيد تتجلى في العرضة البحرينية طوال ثلاثة أيام العيد في فرجان الحد منها فريج المسلم واليوشع والسادة والبنعلي، حيث يلبس الرجال البشوت ويشاركون في العرضة ويتبارزون بالسيوف، مع إطلاق أذخرة نارية من بنادق (المقمع) الخاصة بالعرضة، وأتذكر منهم خميس الكبيسي».
اشتهرت الحد بالزراعة وكانت معظم المنازل فيها النخل بأنواعه والعنب والموز والكنار واللوز وغيرها «البساتين انتشرت بكثرة في تلك الفترة ومنها بستان الذوادي والمسلم والزمة والمؤيد وأمين، أما بستان أمين فأزيل لتوسعة و تطوير المطار، أتذكر يوم قطع نخيل بستان أمين هبت عاصفة في الليل وهاج البحر وقذف بالنخيل المقطوع على طول ساحل الحد الشرقي، كأنه غضب من الله لإزالة النخيل المباركة».
مسيرات الحد
ويضيف بدر «عندما توفي جمال عبدالناصر خرج أهالي الحد بمسيرات بنعش رمزي، معبرين عن حزنهم الكبير على وفاة القائد الملهم، وقطعوا شارع الحد الوسطي والوحيد ذهاباً وإياباً من الشمال إلى الجنوب وبالعكس».
ويذكر الحمادي أيام زمان «عندما خرّجت الحد رجالاً ونساء لهم بصمات واضحة بالمجتمع البحريني، وعملوا على رقي وتطوير ونهضة البلد، فمنهم الوزير والطبيب والمهندس، وكم من أبناء وبنات الحد درسوا في مختلف الدول، وكم منهم ساهم بنشر العلم محلياً ودولياً».
ويبعث الحمادي برسالة إلى أهالي الحد، يتمنى فيها أن يحافظوا على طابع مدينتهم الجميلة سواء من خلال المباني والمعالم، وتماسك مجتمعها، والحفاظ على عاداتها وتقاليدها المميزة.