اختار كوفي انان لحظة دوي المدافع في حلب ليُسمِع صوته قائلاً إنه كان “كبش فداء” للدول الكبرى التي عهدت اليه بمهمة لا تريد لها النجاح أصلاً. لعله ظن أن هناك من سيهتم لوسيط لم يحسن إبداء الاهتمام بالشعب السوري وأدار مهمته كما لو أنها موجهة الى تلميع النظام السوري وتمكينه من التحكّم بعمل بعثة المراقبين الدوليين. فكما اكتشفت الجامعة العربية أن محمد الدابي كان فخّاً، وقعت الأمم المتحدة بدورها في فخ روبرت مود، ففي سياق تقويم المهمة وأسباب إخفاقها يلقي فريق انان باللوم على تفاهمات مود مع أجهزة النظام وتقاريره غير الواقعية.
وعلى رغم أن مهمة انان صارت، مثل مستقبله، أي وراءه، إلا أن الطرف الذي لا يزال متمسكاً بها هو الذي أفشلها فعلاً، أي النظام السوري نفسه. اذ أكد وليد المعلم، متحدثاً من طهران، احدى عاصمتين مع موسكو يستطيع مسؤول سوري زيارتهما هذه الأيام، التزام حكومته تطبيق خطة المبعوث “الدولي - العربي”، خصوصاً أنها في رأيه تحقق أمرين: منع التدخل الخارجي وتغليب الحل السياسي للأزمة... وطالما أن المرشحين لـ “التدخل الخارجي” لا يزالون محجمين عنه، فأي “حل سياسي” يُرتجى من حاكم يدكّ عاصمتيه السياسية والاقتصادية؟ تأتي الاجابة من علي أكبر صالحي، الذي اعتبر أن حكومة انتقالية أو نقلاً منظماً للسلطة “ليس سوى وهم” وطالب بمنح الحكومة السورية “فرصة لتنفيذ الاصلاحات”. من الواضح أن وزير الخارجية الايراني هذا لم يدرك أن تلك الاصلاحات لم تكن أيضاً سوى وهم، ومع ذلك يريد أن يبيعه للشعب السوري وللعالم.
ما الذي دعا دمشق الى إيفاد وزير الخارجية الى ايران في هذا التوقيت؟ ليقول وليد المعلم إن النظام أخمد معركة دمشق وأنه في سبيله الى حسم معركة حلب، التي اعتبرتها أبواقه “أم المعارك” وأنه بعدها سيسيطر مجدداً على كل البلد، فمَن يريد بعدئذ محادثته في “حل سياسي” فليتفضّل، لكن عليه أن يمرّ بطهران هذه المرّة. صحيح أن النظام مطمئن عموماً الى دور روسيا التي استطاعت تعطيل مجلس الأمن لمصلحته ولا تزال تحاول مع الولايات المتحدة للمضي في حل يقوده النظام، لكنه مدرك أن موسكو تسانده لأسبابها وليس اعجاباً به، لذا فهو يسعى الى التحوّط من أي مفاجأة روسية. وما دام النظام يعتقد أن حلب “آخر المعارك” وأنها ستنهي مرحلة دقيقة بالنسبة اليه، فقد حان الوقت اذاً لتفعيل دور الحليف الايراني، بالاعتماد عليه اقليمياً، لنقل الأزمة الى دول الجوار وما بعدها. والوزير علي أكبر صالحي قال إن “هناك دولاً تضع امكاناتها كافة من أجل إضعاف سورية”، وأن “عواقب ما يحصل في سورية ستتجاوزها الى المنطقة”..
يبقى أن يتأكد النظام السوري من صلابة بعض افتراضاته:
1- أن تكون طهران مقتنعة فعلاً بإمكان انقاذه وبجدوى ذلك على المدى الطويل اذا صحّ أنه قادر على الصمود على المدى القصير.
2- أن تكون واثقة بصواب الخيارات التي اتخذها لمواجهة “المؤامرة الكونية” عليه وبالتالي عليها؛
3- أن تكون مستعدة الآن لتسييل استثماراتها السياسية الاقليمية من أجله كحليف لا بديل منه.
4- أن تكون مؤمنة بأن انقاذه هدف يستحق منها أن تساهم في زعزعة منطقتي الشرق الأوسط والخليج، فكما أن سورية و«لبنان حزب الله” شكّلا منذ عام 2000 ذراعاً ضاربة احتياطية دفاعاً عن ايران، فلا بدّ لها اليوم من أن تنبري لدرء الخطر عنهما.
5- أن تكون موقنة بأن الاستحقاق المتوخى يوجب عليها المجازفة حتى لو لم يرتبط مباشرة بأمنها الوطني وبالتحديات التي تواجهها بسبب أزمة الملف النووي.
لا شك في أن ايران تراقب الوضع السوري وتواكبه عن كثب وعلى كل المستويات منذ بدايات الثورة الشعبية، وكما وصفت “الثورة الخضراء” التي شهدتها على أثر تزوير انتخابات 2009 بأنها “مؤامرة”، فإنها لا تحتاج الى من يقنعها بأن ثمة “مؤامرة” أيضاً في سورية. لكن طهران تمكنت من سحق المعارضين الايرانيين وتابعت مزاولة سياساتها القمعية كالمعتاد، وحين هبّت نسائم “الربيع العربي” لم تتردّد في ادّعاء أبوّته هنا وهناك الى أن بلغ سورية فانكشف زيف هذه الأبوة التي لم تعد ترى في ذاك “الربيع” سوى “مؤامرة” ينبغي إحباطها. وعلى رغم أن نظام دمشق لم يفلح في سحق معارضيه، إلا أن ما يريح ايران أنه لا يزال قائماً ومصمماً على القتل والتدمير، ما يعني في عرفها وفي ضوء تجربتها أنه قادر على البقاء والنهوض لمواصلة الوظيفة التي حددتها له. بديهي أن علاقته بها مختلفة نوعياً عن علاقته بروسيا، فهي لا تملك سوى التمسك به لعدم اتضاح معالم بدائله المفترضة، وعلى رغم اتصالاتها المعلنة وغير المعلنة عنها مع بعض اطراف المعارضة، إلا أن الوقت دهمها ولم تتمكن من بناء مصلحة وجسور معها. وقد تكون طهران درست احتمالات القيام بـ “انقلاب داخلي” يتيح لها فرض أمر واقع وتحريك خيوط حل “غير عسكري”، لكن طبيعة النظام أثبطت عزمها وفوّتت عليها مثل هذه الفرصة، فهي اشتكت من أنه لا يطلب نصحها إلا في اطار “الحل الأمني”. يضاف الى ذلك أنه كلما مرّ يوم، أصبحت التنازلات المطلوبة لشراء “الحل” أكثر صعوبة، فالنظام لا يريد التنازل، بل أن يكون “بطل الثورة” و«بطل الاصلاح” في آن.
قد تكون طهران توقعت أن تؤدي الأزمة السورية الى فتح ملف المنطقة وخرائطها، لكن ليس الى هذا الحد، فالمعطيات الراهنة تفرض عليها مراجعة مجمل استراتيجيتها. كانت اعتادت طوال الأعوام الأخيرة وضع الأجندات أو التسلل اليها أو التحكّم بها، كما أنها حاربت بالعراقيين واللبنانيين والفلسطينيين وبتنظيم “القاعدة”. أما اليوم فهي إزاء أجندة لم تتوقعها ومواجهة لم تخطط لها ولم تستدرجها ولم تحدد توقيتها ولا تضمن السيطرة على تطوراتها ونتائجها وتداعياتها على أمنها ومشاريعها. غير أنها مدعوة الى الانغماس فيها، فالاصطفاف الدولي بات واضحاً، و«المؤامرة” هي “المؤامرة”، وما دامت تصدّقها فإما أن تكسب “ورقة” سورية أو تخسرها. لكن كيف، ولماذا؟ طبعاً ليس من أجل المقاومة والممانعة. صحيح أن تشظي المنطقة يمكن أن يكون لمصلحتها، مثلها مثل اسرائيل، لكن الى متى، فإيران تنطوي أيضاً على تنوع إثني قابل للتفجير. وما الذي يضمن أن شيعة الخليج سيجارونها في اللعبة الجهنمية التي يدعوها النظام السوري الى خوضها ضد السعودية وقطر والبحرين من أجل انقاذه في حين أنها كانت بيّتتها لاستباق أي استهداف مباشر لها، إلا اذا كانت تعتبر أن هذا الاستهداف حاصل فعلاً من البوابة السورية.
فيما كان مغول النظام السوري يحاولون اقتحام حلب، قبلة مدن الشرق، وينتهكون تاريخها وعمرانها، ويرتكبون مجازر في معضمية الشام ودرعا، اتفق الوزيران الايراني والسوري على أن “المؤامرة الكونية” من صنع اسرائيل التي تصعب تبرئتها من أي تآمر. فهل حان الوقت لدفع “حزب الله” الى حرب جديدة ضد اسرائيل، وهل إن دمار لبنان يمكن أن ينقذ النظام السور.

- عن جريدة «الحياة» اللندنية