ليس منظراً جميلاً ولا مبهراً، أن يلقي نائب عقاله مهما بلغت أمور الجدل والنقاش في المجلس النيابي، أو بين المجلسين، والتي يتطلب فيها الحكمة والرأي السديد والتشاور بين الأعضاء، وذلك عندما يصل الشعور لديهم بأنهم يحملون أمانة تبرأت منها الأرض والسماء والجبال، إنها الأمانة التي أول شروط في حملها، القوي الأمين، إنها القوة التي تتمثل في رجاحة العقل وحسن التصرف، التي جاءت متمثلة في نبي الله يوسف عليه السلام حين استطاع أن ينقذ قومه من المجاعة، لا بحركات بهلوانية ولا تصرفات صبيانية، ولا استعراض عضلات ولا بخلع عمامة أو كوفية، بل باستعراض المشكلة التي جاءت على هيئة رؤيا لملك مصر، التي فسرها يوسف ووضع لها الحلول قبل وقوعها، فأنقذ بها أهل مصر من أزمة اقتصادية بالخطة التي جاءت بالزراعة لمدة السنوات السبع الأولى بالاستمرار والاجتهاد في العمل، وجمع المحصول في المخازن الخاصة، والاقتصاد في الطعام، لم يقدم سيدنا يوسف هذا الحل وهو في إيوان الملك أو كان وزير من وزرائه، بل كان في غياهب السجون، هذه السجون لم تمنعه من حبه لقومه وولائه للملك الذي حكم عليه بالسجن، إنه الرأي السديد الحصيف الذي نحتاج مثله اليوم بدل رمي العقال، وتبادل الاتهامات وطلب الاعتذارات وكأن المشهد في مجلس شعر، لا مجلسين يحملان أمانة شعب ووطن، بل أمانة أمة بأكملها.
إن ما نشاهده اليوم هو ثورة وغضب بعض النواب لأنفسهم لا لمصلحة اقتصاد البلاد وأمنه وسلامته، وهو ما يتنافى مع وظيفتهم كمسؤولين عن تشريع قوانين تدرأ عن البلاد الأزمات وتحفظها من المخاطر وتدفع بها إلى واجهة التقدم والازدهار. إن ما نشاهده اليوم من تراشق بالكلام أو طلب ذاك النائب الاعتذار وآخر يرمي العقال، فهو أمر لا يجب أن يتسم به أي عضو في المجلسين، فجلوسهم في المجلس أولاً تكليف لا تشريف، ثم أنهم يتقاضون أجراً بالمقابل، ولذلك يتحملون مسؤولية حمل الأمانة، ومسؤولية الأجر الذين هم مطالبون بتأدية واجبهم كما تتطلب وظيفتهم والتي أول صفات حامل هذا التكليف أن يسقط ذاته وينحيه من أمام عينه. إنكار الذات هو الذي رفع الأمة وجعلها فوق أمم الأرض جميعاً، وذلك حين استطاع من حملوا الأمانة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تلاه من الصحابة والسلف بإنكار ذاتهم، وها هو الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه يعزله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن قيادة الجيش وهو في مواجهات مع جيش الروم، ويرسل بدلاً منه سيدنا أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه، وأخر أبو عبيدة إخبار خالد بقرار عزله حتى انتهت المعركة فعاتبه خالد على ذلك، فكانت إجابة أبي عبيدة أنه لم يرد أن يضيع على خالد نصراً يستحقه، وفي صبيحة اليوم التالي يرى الجند مشهداً نادراً، فقائد الأمس «خالد بن الوليد» يقاتل اليوم كجندي تحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح، وقال كلمته المشهورة «إني لا أقاتل في سبيل عمر، وإنما أقاتل في سبيل رب عمر»، إنه إنكار الذات والاعتراف بالخطأ، وها هو «سلطان العلماء» عز الدين بن عبدالسلام يلقاه سائل في الطريق فأفتاه ثم تنبه بعد مراجعة نفسه أن الفتوى ليست صحيحة، فماذا فعل؟ فما كان منه إلا أن أرسل منادياً يطوف أنحاء المدينة يقول: يا من أفتاه اليوم العز بن عبدالسلام يقول لك العز بن عبدالسلام إن فتواه خطأ، والتي قال أهل العلم عنها في وقتها، «لقد تفوق العز على نفسه»، ولقبوه بـ«سلطان العلماء». فبالله عليكم يا أعضاء المجلسين، لا تكونوا نبي الله يوسف، ولا تكونوا خالد بن الوليد، ولا العز بن عبدالسلام، فقط نسألكم أن تقدروا هذين المجلسين حق قدرهما وأن تفوا بالأمانة وتعيدوا حساباتكم مع أنفسكم، لأنكم اليوم مسؤولون أمام الله أولاً والدولة والشعب ثانية، والدولة اليوم تمر بظروف أمنية واقتصادية صعبة، حلولها ستكون بين أيديكم إذا ما اقتديتم بالسلف الصالح حين جعلوا مصالحهم تحت أقدامهم، وقدموا أرواحهم لأجل صلاح الأمة وسلامتها.