القرارات الصعبة ونقصد بها الاضطرار لرفع الدعم ورفع الأسعار ليست قرارات حصرية في البحرين بل نرى جميع دول المنطقة اضطرت لها مثلما البحرين اضطرت لها، بل إن مثل هذه القرارات الصعبة ليست سابقة تاريخية، ربما تكون جديدة وغريبة وغير معتادة للأجيال الحالية إنما بالنسبة لأجيالنا فقد عايشنا مثل هذه الظروف بل أشد منها.
القرارات الصعبة كالتقشف وشد الحزام وترشيد الإنفاق ورفع أسعار الخدمات قرارات اضطرت لها دول عديدة على مر التاريخ، والنماذج التي حولت هذه القرارات الصعبة إلى نجاح وليس فشل وإلى قوة دفع للصعود وليست كوابح للأمل والتفاؤل أيضاً عديدة، نماذج حولت الصعاب لفرص، بل الأكثر من ذلك أن التقشف خلال سنوات معدودة انعكس إيجابياً على دخل المواطن فزاد، لدينا سنغافورة لدينا ماليزيا التي نجحت فيها السياسات الاقتصادية الصارمة في تخفيض نسبة من هم تحت خط الفقر من 52% من إجمالي السكان في عام 1970، أي أكثر من نصفهم، إلى 5% فقط في عام 2002، وارتفع متوسط دخل المواطن الماليزي من 1247 دولاراً في عام 1970 إلى 8862 دولاراً في عام 2002، أي أن دخل المواطن زاد لأكثر من سبعة أمثال ما كان عليه منذ ثلاثين عاماً، وانخفضت نسبة البطالة إلى 3%.
تاتشر نموذج قيادي آخر نجح في تحويل ظلام الأزمات إلى نور حين وصولها إلى مقر رئاسة الوزراء وضعت برنامجها المليء بالقرارات الصعبة والذي يخالف نهجاً معيشياً ونمطاً دام لعقود تعوده البريطانيون وكانت تتوقع مواجهة شرسة من المعارضة ومن عموم الناس، فجمعت أعضاء حكومتها ومستشاريها وأعدتهم لتلك المواجهة فقالت لهم: «أنا أعشق النقاش والجدال. فلا أتوقع من أحد أياً من كان أن يجلس هكذا بهدوء ويوافقني في كل ما أقول، لأن هذه ليست مهمته».!!
هكذا أعدت تاتشر نفسها وأعدت فريقها لمواجهة الاعتراض بالنقاش والجدل والوصول إلى قناعات مشتركة، أعدت فريقاً يعرف كيف يرد بالحجة لا أن يقول ممثلو الشعب «زين منا خليناكم اتكلمون»!!
والآن نرى المملكة العربية السعودية والإمارات تتخذان ذات الإجراءات التقشفية مثلنا ومثل تلك التجارب التاريخية، ولكنهما اتخذتا من تلك النماذج التاريخية الناجحة مثالاً وقدوة.. إلا نحن في البحرين، أخذنا من التجربة البريطانية مثلها الشعبي «مايو ي اور ذا هاي وي» أي إما طريقتي أو الوطن يتعذرك!! بل إننا تركنا كمجتمع بهذه القرارات المفاجئة معلقين في الهواء لا نعرف هل سنهبط سالمين أم سنسقط في هوة، نحن مثل الذي صحا فزعاً من نومه.
حين تحدث ولي ولي العهد السعودي عن حزمة الإجراءات التي ستتخذها المملكة العربية السعودية حرص على الخطاب وعلى أن تكون لديه رسالة بث فيها روح التفاؤل الذي خص به الصحف الأجنبية بالتوازي مع خطاب آخر خص به المجتمع السعودي، للتأكيد على أن تلك الإجراءات الصعبة هي جزء من منظومة متكاملة وحزمة كبيرة لا تقف عند رفع أسعار الخدمات فقط، بل هناك حزمة مصاحبة معها شاملة ستنهض بالاقتصاد وتخلق الفرص للعمل وسيستفيد منها المواطن، وبغض النظر عما سيحدث مستقبلاً إن كانت هذه الحزمة مجدية أم لا، المهم أن تطمين الناس والشرح لهم وتبسيط المعادلات الاقتصادية مهمة ضرورية للخطاب المحلي والدولي، حتى لا يصاب المجتمع بالهلع كما حدث عندنا، وحتى لا يصاب رأس المال الأجنبي بالنفور من أجواء التشاؤم التي سادت أسواقنا.
إن الأضرار التي ستعود علينا نتيجة الهوة الفاصلة بين صانع القرار وبين المجتمع البحريني ستنعكس حتماً على النمو الاقتصادي، أنت أمام مجتمع مصاب بالهلع الآن لا يدري إلى أين هو متجه؟ ما حدث يوم الإثنين في محطات البترول صورة واضحة لرأس لجبل الجليدي، وبقيته تستشعره من حديث المجالس المفعم بالتشاؤم والإحباط واليأس والخوف على المستقبل، وهذا آخر ما نريده، على العكس تماماً من الشعور بالتفاؤل في دول المنطقة المجاورة -وإن كان حذراً- بالرغم من أنه طبق ذات الإجراءات.
هذا التفاؤل ليس مرده فارق مستوى الدخل بيننا وبينهم فحسب، إنما لأن صورة من صور المشاركة الجماعية تحققت هناك، بخطاب عقلاني يحترم الناس ويحترم عقولهم، ومن تهيئة وإشاعة روح التفاؤل والوضوح تلك مهمة تبناها المسؤولون والوزراء الذين حملوا ذات الرسالة وانتقالاً للتنفيذيين.
اعتمد صناع القرار على ماكنة إعلام ضخمة جعلت من المواطن شريكاً يجدف جنباً إلى جنب معهم في قارب واحد، أما عندنا فقد تم الاتكال على خطاب استفزازي يزيد الطين بلة وعلى حسابات إلكترونية مأجورة مهلهلة مضحكة تشتم هذا وتسب ذاك وتخون هذا وتطعن في ذاك لتطمين الناس، هذا دليل على عدم إدراك لحجم المشكلة التي يواجهها صناع القرار وغياب تام عما يجري على الأرض.
الخلاصة مرة أخرى ليس التقشف مصيبة وأزمة بل بالعكس بإمكانه أن يتحول إلى نعمة وفرصة للنهوض من غفوتنا واتكالنا وكسلنا، قد يكون فرصة لخلق سوق عمل وطني محلي نعتمد فيه على أنفسنا، قد يدفعنا لتحسين أدائنا وتطويره، قد يقودنا لتحسين مستوى الخدمات التي نتلقاها وميزتها الوحيدة أنها رخيصة، هناك صور إيجابية كثيرة لم نمر عليها كان بالإمكان توظيفها بدلاً من هذه المخارج البائسة والحلول العاجزة التي نراها تعالج الصدمة المجتمعية التي نمر بها.