تحدثنا في الجزء الأول من المقال عن ثلاثة نماذج أعتقد أنها تناولات قدر ليس بقليل من البحث ولكن ليس من كونها نماذج للعمل الجماعي منبثقة من البيئة العربية. وسنتطرق إلى النموذج الأخير في الجزء الثاني والأخير من المقال، وهو خصوصية أخرى للأمة العربية، التي قد يكون لديها أطول سواحل في العالم، وتشكل جوهر خصوصيتنا نحن أهل الخليج العربي وهي حياة أهل البحر وتأثيرها، وسأضرب لك – وحديثي لا زال موجهاً للخبير الياباني – مثلاً بعيداً عن الخليج، إن استطعت ترجمته إلى الإنجليزية، ثم أعود إلى البحرين، وهو يتعلق بأهل محافظة الإسكندرية المصرية، الذين ابتدعوا لهجة مميزه للغاية في حديثهم، فمن عمق تأثير الجماعة في تكوينهم يتحدث الفرد منهم عن نفسه بلغة الجمع الغائب، فيقول مثلاً «إنروحو إنجيبو الحاجه أو حنجيبوك بكره من.. أو حنشفوكو بعد صلاة المغرب» وهكذا.
دعنا نعود إلى الخليج الآن وإلى البحرين تحديداً التي نحن وأنت نتحرك على أرضها، أنا على يقين أنك لا تعرف مفهوم «الربع»، وهو مفهوم حسب أعتقادي موجود فقط هنا شكلته العلاقة مع البحر من صيد إلى استخراج اللؤلؤ، وهو خصوصيتنا نحن أهل البحرين، حيث يخرج مجموعة من الرجال إلى عرض البحر، ويبقون هناك لمدة تمتد إلى أربعة أشهر لاستخراج اللؤلؤ يبتعدون عن أهلهم وعن كل البشر، ويعيشون في عزلتهم في البحر، يأكلون وينامون ويتسامرون مع بعض، وتعتمد حياة من يغطس منهم إلى قاع البحر، على من يوجد على سطح المركب، ويعتمد جميع من في المركب في رزقهم على براعة هذا الذي في قاع البحر الذي يواجه أخطاراً لا حصر لها. هؤلاء هم «الربع» وبين هؤلاء تتشكل علاقة تلاحم ومصير قل وجودها في العالم، من خلال العمل الجماعي المتكامل. هؤلاء شكلت علاقة العمل بينهم تلاحما نادرا أقوى من انتماء الرجل إلى أسرته، مفهوم «الربع» في الخليج وخاصة البحرين ليس اجتماعيا بل في أساسه مهنياً صرفاً قائم على العمل الجماعي المتكامل المتقن انعكس إلى سلوك وعلاقات أجتماعية.
لم يتكلم بعدها الخبير الياباني أي شيء، بل وقف وأنحنى لنا جميعاً، وشعرت بالزهو ولذة الانتصار الحضاري، ولكنها كانت للحظات أو لثوانٍ حيث أتبعها قائلاً «هذا ليس لكم بل لإجدادكم فأنتم لا تشبهونهم ولا تشبهون أحداً من المعاصرين».
شعرت بالغصه التي لم تمكنني من الشعور بالانتصار، ولكنها ليست مشكلته، إنها مشكلتنا أننا نستورد كل شيء معلباً ولا نعمل فيه العقل أو نحلله ثم نفهمه ونستوعب كل جوانبه ثم نقرر أن نتعلم منه كيف نطور مفاهيمنا أو إضافة ما ينفع منه إلينا.
لعل مشكلتنا الأزلية أننا لم نحاول قبل ذلك أن نفهم أنفسنا فإما تقليد أعمى للآخر دون تمحيص أو وعي أو اتباع منغلق ومتزمت للماضي ومرعوب من التغيير.
لذلك نبدو منطفئين لا إضافة لنا للعالم، وملامح خصوصيتنا المزعومة فقط قشور، أغانٍ، ولوحات، نحن بحاجة لأن ننعتق من ذاتنا إلى ذاتنا، فنبدع دون شطط وتقليد، وأن نلتزم بروحنا دون تحجر وتقوقع في التطوير الإداري تجديد لثقافتنا فدعونا نشق الطريق ونبدأ منه.
* مطور أعمال وقدرات بشرية