تعد الكنيسة القبطية المصرية واحدة من أبرز القوى الناعمة في المجتمع المصري، وقد شرفت بزيارة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى حفظه الله ورعاه، لها خلال زيارته الأخيرة لمصر بما يعكس قيم الأخوة والتسامح الديني الذي تتسم به البحرين، ويؤكد مبادرة جلالة الملك التي انطلقت من البحرين، والتي دعت إلى الحوار بين الحضارات والحوار بين الأديان، وهو الأمر الذي يؤكد الاعتدال والمحبة والتسامح لدى القيادة السياسية، التي دعت أنصار المذاهب والأديان من كل دول العالم للتحاور والالتقاء على أرض المنامة أرض السلام والتسامح الديني.
والكنيسة القبطية هي من الكنائس الأرثوذكسية المشرقية، وهي مؤسسة على تعاليم القديس مرقص، عمرها أكثر من 19 قرناً من الزمان، وبالرغم من الاتحاد والاندماج الكامل للأقباط، فقد استمروا ككيان ديني قوي، وكوَّنوا شخصية مسيحية واضحة في العالم، والكنيسة القبطية تعتبر نفسها مُدافِعاً قوياً عن الإيمان المسيحي.
وقد أصبحت الكنيسة القبطية ذات وجود عالمي منتشر في جميع أصقاع الأرض، واستطاع الأقباط تأسيس كنائس في كندا وفي نيويورك ونيوجرسي ولوس انجلوس، وفي ساو باولو في البرازيل وفي سانتا كروز في بوليفيا، وأستراليا وفرانكفورت بألمانيا وغيرها من دول العالم، وجميعها تتبع من حيث الإدارة الكنيسة الأم في مصر.
ولذا لَعِبَت الكنيسة القبطية دوراً هاماً في الحركة المسيحية العالمية، فالكنيسة القبطية هي من أول الذين أنشأوا مجلس الكنائس العالمي، وقد ظلّت عضواً فيه حتى عام 1948. وهي عضو في مجلس كل كنائس أفريقيا ومجلس كنائس الشرق الأوسط، وتلعب الكنيسة القبطية دوراً هاماً في إدارة الحوار بينها وبين كنائس الكاثوليك، والأرثوذكس الشرقيين، والبروتستانت.
وفى فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك كان هناك اعتماد متبادل بين النظام والكنيسة، فقد تولى مبارك السلطة في وقت كانت العلاقة بين الطرفين في أسوأ حالاتها بسبب قيام الرئيس الراحل أنور السادات بتحديد إقامة البابا شنودة الثالث، فسعى مبارك لتدعيم علاقته بالكنيسة.
ومع ثوره 25 يناير 2011 وانتهاء عهد مبارك ظهرت ميول الكنيسة وارتباطها بنظام مبارك حيث كانت ترفض فى البداية الدعوة لإسقاط النظام وكانت ترفض ايضاً مشاركة الأقباط فى هذه المظاهرات، ثم شهدت الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة يناير مشاركة الأقباط في تأسيس أحزاب سياسية، والانضمام إليها، مثل حزب «المصريين الأحرار» الذي أسسه رجل الأعمال نجيب ساويرس، والحزب «المصري الديمقراطي الاجتماعي». وبرز عدد من الأقباط في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية المصرية، فالأقباط يسيطرون على نحو 40 % من الاقتصاد المصري، ويأتي 3 من الأقباط على رأس قائمة أغنى أغنياء مصر وذلك حسب التصنيف السنوى الذي تصدره مجلة «فوريس».
وكانت دعوة الفريق أول عبدالفتاح السيسى للبابا تواضروس وشباب المعارضة لمناقشة حل للأزمة السياسية في 30 يونيو 2013، والتخلص من حكم الأخوان، حيث لم يكن البابا ساعياً للوصل إلى أي دور سياسي للكنيسة، وإنما كان دفاعاً عن الدور الوطنى الذي اشتهرت به الكنيسة المصرية عبر تاريخها، حيث يسجل لها إعلاء المصلحة الوطنية باستمرار، ولذا خرج الأقباط فى 30 يونيو 2013 مع عموم المصريين لإنهاء حكم الإخوان، مشاركه من كل الفئات والطوائف.
إن الموقف الإيجابي من الأزهر الشريف وإمامه ومن الكنيسة والبابا كان داعماً للرئيس عبد الفتاح السيسي وهادفاً للحفاظ على الدولة المصرية من الانهيار، ولذا قال راعي الكنيسة المرقسية بالأزبكية مكاري إن الرئيس السيسي مرسل من السماء، وذلك بعد أيام من حضور السيسي بشكل مفاجئ قداس عيد الميلاد في كاتدرائية القاهرة، خاصة أنها المشاركة الأولى من نوعها التي يقوم بها رئيس مصري.
فى كل تلك المراحل، كانت الكنيسة حريصة على التأكيد على أنها لا تسعى إلى لعب دور سياسي، ولكنها مؤسسة وطنية تشارك في الحفاظ على أمن مصر، ولذا شهد الإطاحة بحكم الأخوان حضور البابا تواضروس إلى جانب وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي وشيخ الأزهر وآخرين.
إن حقبة الرئيس السيسي تقوم على التقدير والاحترام الشديدين لكل من الأزهر والكنيسة باعتبارهما من أعمدة الثقافة المصرية والاستقرار والأمن المصري الداخلي، ورمزاً أساسياً من رموز وحدتها الوطنية وأداة أساسية في مواجهة قوى الشر والتخريب والإرهاب.
لذا كانت زيارة جلالة الملك إلى الكنيسة الأرثوذكسية تكريماً لها ولدورها التاريخي تلك الزيارة التي لقيت ترحيباً من عموم المصريين مسلمين وأقباط، لأنها أكدت المكانة التاريخية التي تحظى بها في نفوس أصحاب الفطر السوية على مستوى العالم، خاصة أن الكنيسة ألأرثوذكسية عرفت بمواقفها التاريخية والوطنية والقومية المشهودة ومثلت قيم العقلانية والدفاع عن الحق وحدود الأوطان وسيادتها ومكتسباتها، ولذا أشاد قداسة البابا تواضروس الثاني بمواقف البحرين الرائدة في دعمها لمصر، ودور جلالة الملك في تحقيق الأمان والاستقرار في البحرين، وبالخطوات الإصلاحية ومبادرات التقارب بين الأديان التي يرعاها جلالته،
والخلاصة أن زيارة جلالة الملك للأزهر والكنيسة في مصر باعتبارهما أبرز مصادر القوى الناعمة في المجتمع المصري قد جسدت نهج البحرين ودعمها لكل ما يحفظ وحدة هذه الأمة وتماسكها وحماية قيم التسامح والتعايش والحوار التي دعت إليها كل العقائد والأديان. وللحديث بقية.
* استاذ الإعلام المساعد بجامعة البحرين