إحدى الإشكاليات المطروحة منذ زمن بعيد هي مدى الارتباط بين الحرية الإعلامية وبين الالتزام الوطني أو المجتمعي. ومعروف أنه إذا نشرت الصحيفة أخباراً تسيء للآخرين أو تشوه سمعتهم أو معلومات كاذبة تتم مساءلة رئيس التحرير فضلاً عن مساءلة كاتب المقال.
ولعلنا نتذكر منذ سنوات قلائل عندما نشرت صحيفة «الأهرام» مقالاً وجدت فيه إسرائيل واليهود مساساً بهم، واعتبرته معادياً للسامية، ورفعت شكوى في المحاكم الفرنسية ضد رئيس التحرير أنذاك إبراهيم نافع مما اضطره لتوكيل أكثر من محام للدفاع عنه أمام المحكمة الفرنسية.
ولعل نموذج أزمة نقابة الصحافيين المصريين مع وزارة الداخلية تثير القلق والتساؤل حول اختلاط المفاهيم السياسية والحزبية مع المبادئ الصحافية السليمة، وكذلك اختلاط المفاهيم بين معارضة الدولة والمجتمع وبين معارضة نظام سياسي أو حكومي معين. رغم أن الصحف المصرية الثلاث هي في حقيقتها صحف حكومية، منذ أن تم تأميم الصحافة في العهد الناصري، وأصبح تعيين المسؤولين الكبار بها بقرار من الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني أو اللجان الخاصة التي تم إنشاؤها، وهي بدورها تعبر عن الحكومة أكثر من تعبيرها عن الدولة والمجتمع. وما أقصده بالتعبير عن الحكومة أي عن نظام وقيادة سياسية معينة. أما التعبير عن الدولة أو المجتمع فهي تعبير عن قضايا مهمة لكليهما.
أما بالنسبة لقضايا المجتمع فلا يتطرق للمساس بها أي من الإعلامين في أمريكا أو أوروبا، مهما ادعى البعض غير ذلك، ولا يتحدث أحد مثلاً عن أن روسيا ليست عدواً أو أن الاتحاد السوفيتي ليس خصماً للغرب وحلف شمال الأطلسي «الناتو» وظاهرة المكارثية في الولايات المتحدة في خمسينات القرن العشرين خير دليل على ذلك كما لا ينتقد أحد القوات المسلحة أو الشرطة أو أحكام القضاء باعتبار هذه المؤسسات الثلاث هي ركائز للدولة ويسمح بتصحيح مسار المنحرفين والمخطئين فيها عبر الآليات المختصة.
أما في تاريخنا الحديث فأحياناً كثيرة تقع الصحافة بدعوى الاستقلالية في أخطاء. ولقد وقع بعض جيل الشباب في ثورة 25 يناير، وثورة 30 يونيو، في فخ خطير يتمثل في الأخذ بالمفاهيم الغربية عن الحرية والديمقراطية، دون دراسة كيف نشأت؟ وكم من الزمن استغرقت حتى أصبحت مستقرة في المجتمع؟ وأي ضوابط لها في أمريكا وأوروبا؟ وتصور البعض أن الحرية فوضى وأن إنشاء الأحزاب عملية بلا ضوابط وأن التظاهر كذلك.
ونصيحتي لهؤلاء جميعاً أن يقرؤوا التاريخ الأمريكي وقواعد التظاهر في الولايات المتحدة وأوروبا، وكيف تتم معاقبة من يخرج عن تلك القواعد. إن هناك فارقاً بين الحرية والتظاهر وبين النظام والفوضى والاعتداء على حقوق الآخر وحرياته.
باختصار، ليست هناك حرية أو حقوق إنسان أو ديمقراطية دون الأخذ في الحسبان حقوق الآخر فرداً كان أو جماعة أو مؤسسة تعد من ركائز الحرية التي ظهرت منذ بداية القضاء على الإقطاع وقيام الدولة الوطنية وهي ترتبط بالمهام التقليدية الثلاث للدولة وهي الدفاع والأمن والعدالة.
ولا يوجد في قوانين الصحافة في العالم ما يذكر أنها فوق القانون أو أن الصحافي ذاته مصونة وله حصانة. فالصحافي إنسان ومواطن مثله مثل غيره، ولكن له مهمة محددة ومعروفة، وكذلك لا يوجد للموظف العام حصانة فإذا اخطأ أي منهما يعاقب وإذا أحسن يثاب.
أما أعضاء البرلمان فليست لهم حصانة مطلقة، فحصانتهم فيما يقولون تحت قبة البرلمان، أما ما يقولونه أو يفعلونه خارجها فهم محاسبون على تلك التصرفات. وفي حال الخطأ يتم رفع الحصانة عنهم ومساءلتهم، فكيف يتصور بعض الصحافيين أنهم فوق القانون إذا خرجوا عن حدود المهنة وقواعد العمل النقابي. وتصبح الأمور كارثة إذا كانت النقابة نفسها هي الخارجة عن قواعد المهنة وأصولها فتتحول إلى حزب سياسي أو إلى مأوى لإخفاء المطلوبين للعدالة. لقد زاد المشكلة سوءاً استشراء التمويل الأجنبي بين بعض الصحافيين، وقد عوقب أحدهم لأنه أنشأ مركزاً للتدريب وحصل على تمويل أجنبي دون الحصول على موافقة الجهات المختصة. ولو فعل صحافي أمريكي مثل ذلك فسوف يعاقب. والقانون الأمريكي الحالي يحظر على كافة مؤسسات المجتمع المدني تلقي أي تمويل خارجي خاصة منذ احداث 11 سبتمبر 2001، وهذا يجعل تصحيح المفاهيم الخاطئة أمراً ضرورياً لسلامة المواطنين وأمن وسلامة المجتمع.