الأمريكان كانوا أكثر الناس فرحاً بانهيار الاتحاد السوفيتي، إذ هذا الانهيار جعل بلاد «العم سام» القوة العالمية الأولى «نظرياً».
نقول نظرياً، لأن الوضع آنذاك كان يشير لإمساك الإدارة الأمريكية بخيوط السياسة العالمية كلها، وباتت مصائر دول مرهونة بما تقدره الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض.
لكن في نفس الوقت كان هناك تصاعد خطير بعيد عن السياسة لدول كان لها ذكاؤها البعيد عن «الفكر الاستعماري»، إذ استوعبت مبكراً بأن مفتاح الهيمنة الحقيقية على مقدرات العالم ليس أساسه السياسة، بل الاقتصاد.
لذلك نرى اليوم قوة اليابان الاقتصادية التي تفوق أمريكا، رغم أن الأخيرة ضربت اليابان بقنبلتين ذريتين دمرت هيروشيما وناجازاكي في الحرب العالمية، وقضت بانتهاء القوة العسكرية اليابانية. ورغم ذلك نرى أن التوجه الياباني تغير من فكر «طياري الكاميكاز» الانتحاري، إلى الفكر الاقتصادي الذكي.
وبنفس المنوال اتجهت الصين الشيوعية القريبة من الشكل السوفيتي إلى الاقتصاد، وباتت اليوم تمثل قلقاً للأمريكان، بل وزادت على ذلك بأن تحولت الصين إلى الدائن الأول لاقتصاد الولايات المتحدة وكذلك اليابان التي تأتي في المرتبة الثانية.
تخيلوا أن أمريكا التي تريد أن تتحكم في العالم سياسياً، الصين ممسكة بتلابيب «العم سام» اقتصادياً، تطالب آلاف الملايين، وكذلك اليابان التي استهدفتها أمريكا بالقنابل الذرية، فردت على ذلك بأن تكون أحد «مقرضي» أمريكا حتى لا ينهار اقتصادها.
في الوقت الذي خسرت فيه أمريكا عشرات الآلاف من جنودها في حروب فيتنام والعراق وغيرها، كانت الدول الذكية التي استهدفتها أمريكا عسكرياً تتطور اقتصادياً وتكنولوجياً، دون أن تخسر فرداً واحداً تضحي به في حرب تبعد آلاف الأميال عن الأرض الأم.
لو تتابعون أفلام المخرج الأمريكي مايكل مور، ستجدون الجانب الأسود الذي تخفيه السياسة الأمريكية ويحاول البيت الأبيض أن يصرف نظر الناس عنه. الجانب الذي يبرز فيه معاناة الجنود الأمريكان السابقين في الحروب التي خاضتها دولتهم بعيداً عن أرضها، الجنود الذين رأوا الأهوال حينما دخلوا في حروب مع شعوب أخرى وعلى أرض هؤلاء، جنود أصيبوا بأمراض نفسية، وآخرون بعاهات مستديمة، عوائل فقدت معيليها، وأبناء فقدوا آباءهم.
كلها خسائر تكبدها الشعب الأمريكي بسبب سياسة قاطني البيت الأبيض، بسبب أشخاص يأتون ليوهموا العالم ويوهموا أنفسهم بأنهم سيحكمون العالم لمدة أقصاها 8 سنوات، وبعدها يتركون المكان في «خراب» أكبر مما سبقه.
كنا نقول إن جورج بوش الابن هو أفشل رئيس أمريكي على الإطلاق، خاصة وأنه هو الذي بدأ حرباً ظالمة مبنية على الكذب ضد العراق، وضم لامتدادها أفغانستان، لكن باراك أوباما صاحب الكذبة الأشهر بإغلاق رمز التعذيب الأول وواجهة انتهاك حقوق الإنسان، معقل غوانتنامو، كان الأسوأ على الإطلاق، فهو من باع دماء جنوده الأمريكان ورخص بكل ما قاموا به، عندما باع العراق للإيرانيين، أقلها بوش لم يفعلها.
بالتالي التعويل على الأمريكان اليوم أمر لا يراهن عليه أحد، خاصة وأن الفترة القادمة قد تشهد صعود أكثر الرؤساء غرابة وجنوناً إن وصل للبيت الأبيض دونالد ترامب، أو أكثر الشخصيات التي تعمل بناء على إحساسها بالغدر والخيانة كهيلاري كلينتون، والتي يبدو بأن ستنفس عما فعلته مونيكا لوينسكي بها في سياساتها الخارجية.
الأمريكان حرقوا أنفسهم وقبلها مصداقيتهم، نعم هم مازالوا يفاخرون بأنهم القوة العالمية الأولى بالنظر لترسانتهم العسكرية وصناعة التسليح لديهم، في مفارقة مضحكة لدولة تريد أن تحظر الأسلحة النووية وهي تستخدمها وتصنعها، لدولة تقول بأنها راعية لحقوق الإنسان لكنها تنتهكها.
اليوم التعويل على الشراكات مع القوى العالمية الأخرى، الدول التي تركت السياسة والانغماس التام فيها لأمريكا وغرقت الأخيرة في أكبر دين مالي عالمي في التاريخ يبلغ تريليونات، وركزت على الصناعة والتجارة كالصين واليابان، وركزت على العلاقات الاستراتيجية المتداخلة فيها التجارة والصناعة وحتى السلاح مثل روسيا.
البحرين اليوم اتجهت بفضل جهود جلالة الملك حفظه الله إلى تنويع شراكاتها السياسية والاقتصادية، هي تمتلك موقعها مع الأمريكان، لكنه مبني على انتقائية حصيفة فيما تختاره من مواقف، وفيما تبديه من تعاون، وخطابها تحول ليضع كثيراً من الحدود لاستهتار شخصيات أمريكية رسمية بالاحترام والمكانة التي منحتها إياهم البحرين عن طيب خاطر. البحرين اليوم في مقابل علاقتها بالأمريكان تمتلك العلاقة القوية مع أطراف يسببون أصلاً قلقاً للأمريكان، فالتقارب والتعاون والعلاقات القوية مع الصين وروسيا واليابان، كلها «منغصات» للأمريكان تسبب لراسمي سياستها «عسر هضم» في التفكير!!
زيارة جلالة الملك لروسيا تحمل في طياتها الكثير من الذكاء السياسي، الحديث عن المنظومة الدفاعية العسكرية، والاستفادة من خبرات الروس في ذلك، بحد ذاته أمر يفترض بأن يجعل «الأذكياء» فقط في الإدارة الأمريكية ينتبهون لما فعلته سياستهم «الماكرة» في منطقة الخليج العربي.
السياسة فن يدار بذكاء وحصافة، لا يحده امتداد جغرافي ولا تفوق عسكري، السياسة الذكية بإمكانها أن تجعلك متمتعاً بكل ما سبق من امتداد وقوة، حينما تجمع معك حلفاء أقوياء، أمامهم تحتار حتى القوة العالمية الأولى، كما تدعي.