صرح المتحدث باسم الكرملين، ديميتري بيسكوف يوم الجمعة 16 سبتمبر الحالي أن «موسكو تستخدم نفوذها في سوريا من أجل دعم تنفيذ الهدنة هناك». وقال للصحافيين إنه «في ضوء الاتهامات المتبادلة بخرق الهدنة، بين الأطراف المتحاربة، فإن الجانب الروسي يستخدم نفوذه لتأمين تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار»، مؤكداً أن «موسكو تأمل في أن تحذو واشنطن حذو روسيا في هذا المجال». وقد أدلى بيسكوف بهذا التصريح رداً على سؤال حول مدى استعداد روسيا للتأثير في القيادة السورية التي لم تنفذ التزاماتها بشكل كامل حول سحب قواتها من مواقعها في منطقة حلب.
نقرأ هذا الخبر من موسكو ونحن نتذكر تصريحاً مماثلاً أدلى به الدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي، المبعوث العربي والأممي لحل الأزمة السورية، بعد انتهاء مهمته، أواخر عام 2014. إذ ذكر في مقابلة بثتها إذاعة لندن، في برنامج «المشهد»، مع الإعلامية جزيل خوري، بعد أن تحدث عن أمور كثيرة تتعلق بجهوده لحل الأزمة السورية.. ذكر نقطة ملفتة للنظر استوقفتني، حول الصراع في سوريا، ومجريات الأحداث. حيث قال إن «نفوذ روسيا على سوريا يساوي الصفر، مثلما هو نفوذ أمريكا على إسرائيل يساوي الصفر».
تذكرت مقولة الإبراهيمي، على الفور، وأنا أقرأ التصريح الأخير للمتحدث باسم الكرملين. كما عادت بي الذاكرة إلى قصة فيليب حبيب، الدبلوماسي الأمريكي، اللبناني الأصل، الذي كان مبعوث إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان إلى الشرق الأوسط، أوائل الثمانينات، في فترة قيام إسرائيل باجتياح لبنان، عام 1982. حيث كانت إحدى مهمات حبيب التوصل إلى وقف لإطلاق النار، ولذلك كان يقوم بجولات مكوكية بين دول المنطقة، فكان دائم التنقل بين العواصم، وكنا كصحافيين وإعلاميين نتولى تغطية زياراته عندما يأتي إلى عمان، سواء جاء عن طريق المعبر مع الضفة الغربية، أو عن طريق المطار. كان يلفت نظرنا حقيبة صغيرة، حجمها أقل من حجم حقيبة رجال الأعمال، لا تفارق يده على الدوام. علمنا فيما بعد أن تلك الحقيبة كانت تحتوي على هاتف متنقل يعمل من خلال الأقمار الاصطناعية، قبل عصر الخلوي.
المهم أنه جاء في الأخبار، في أحد تلك الأيام، من بيروت، أن فيليب حبيب كان يتحدث مع رئيسه ريغان وأنه حمل هاتفه، خلال المكالمة، وخرج به إلى الشرفة، حيث كان يقيم، وأبقى الخط مفتوحاً كي يستمع ريغان بنفسه إلى أصوات الانفجارات التي تهز بيروت جراء القصف الإسرائيلي المتواصل على المدينة، ويثبت لرئيسه بذلك أن الهجوم الإسرائيلي لم يتوقف كما وعده مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل، آنذاك. فقد كانت المساعي الأمريكية قد أسفرت عن تعهد بيغن إلى الرئيس ريغان بوقف قصف العاصمة اللبنانية، وهكذا ذهب فيليب حبيب إلى بيروت كي يتحقق بنفسه من التزام إسرائيل بتعهدها، بوقف القصف. ووصل إلى هناك ووجد القصف لم يتوقف. فاتصل بريغان وأسمعه، بشكل حي ومباشر، أصوات حمم القذائف، من الجو والبر والبحر، التي كانت تنهال على بيروت ومن فيها، على يد الآلة العسكرية الإسرائيلية.
تذكرت قصة فيليب حبيب عندما استمعت لتصريح الأخضر الإبراهيمي لأول مرة. وعدت وتذكرت قصته ثانية بعد أن قرأت تصريح المتحدث باسم الكرملين. فرغم كل ما يشاع ويقال عن «متانة وعمق» علاقة سوريا مع روسيا يأتي دبلوماسي مرموق عالمياً، مثل الإبراهيمي، يتحدث من واقع تجربة شخصية، ليقول إنه «لا يوجد نفوذ لروسيا على سوريا». ثم يأتي، بعد قرابة العامين، الناطق الرسمي الروسي ليؤكد مقولة الإبراهيمي، بتصريحه أن «بلاده تحاول استعمال نفوذها على الحكومة السورية». والأمر ذاته ينطبق على إسرائيل. فرغم كل ما يقال عن «العلاقات الاستراتيجية» التي تربطها بأمريكا، فإنه لا يوجد نفوذ لأمريكا على إسرائيل، حسب الإبراهيمي.
تأثير الدول الكبرى على الدول الصغرى يخضع لجملة عوامل واعتبارات، وليس من الضروري أن تنصاع الدول الصغرى لإملاءات وأوامر وطلبات الدول الكبرى بحذافيرها في كل الأحوال. لكن الخلاصة هي أننا يجب ألا ننخدع بعمل الصغار، بل نرى ما يفعل الكبار، فلا ننظر إلى «دموع عينيه.. بل ننظر إلى فعل يديه».