بداية وقبل الخوض في التفاصيل، نشير وكلنا جزم بأن قضية الأم التي نشرتها صحيفتنا «الوطن» يوم أمس، بشأن معاناة ابنها الذي يعاني من صعوبة في التعلم مع قبوله في المدارس الخاصة والحكومية، ستصل بالتأكيد لصاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان رئيس الوزراء الموقر الذي ناشدته والدة الطفل.
كما أجزم بأن الموضوع سينال من اهتمام الأخ الدكتور ماجد النعيمي وزير التربية والتعليم، باعتبار أننا نتحدث هنا عن حق مكفول من حقوق أبنائنا، خاصة وأن الوزير -كما نعرف- داعم بقوة لعملية دمج الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، مع التنبيه أن الحالة المنشورة ليست لطفل يعاني من احتياجات خاصة، بل لطفل يعاني من صعوبة في التعلم.
المؤسف في الموضوع ما كشفته الأم من ردود فعل هيئات تعليمية في المدارس التي قصدتها وبالأخص مدارس خاصة، حين قيل لها إنهم يحاولون التخلص من هكذا تلاميذ!
أقف هنا لأوضح نقطة للأسف معنية بمبدأ يتجه للانقراض ويتعلق بالمهن التي يفترض أن نطلق عليها مسمى «مهن إنسانية».
من أرقى المهن الإنسانية التعليم والطب، ومن أعظم الوظائف مهنة المعلم والطبيب، فالأول على يديه تبنى الأجيال وتتطور وتكون أدوات بناء لمجتمعاتها، والثاني هو منقذ للأرواح والبشر بإذن الله، هو الذي بعلمه وكفاءته يمكنه منح الناس بصيص أمل متجدد في الحياة.
لذلك حينما نتحدث عن هاتين المهنتين، من المخجل جداً أن نرى بعض الأمثلة التي تكشف لنا عن وجود عينات من ممتهني هاتين المهنتين، لم يدخلوها بسبب الرغبة السامية والأثيرة في «خدمة الناس» و»إنقاذ أرواحهم».
المعلم المخلص لمهنته يرى الإنجاز في أبنائه التلاميذ، عندما يتعلمون ويكبرون ويتطورون ويصبحون رقماً صعباً مؤثراً في مجتمعهم، بل هناك معلمون يصرون على التخصص في «التربية الخاصة» رغبة في مساعدة الطلبة من ذوي الاحتياجات الخاصة أو الذين يعانون من صعوبة التعلم.
مثل تلك الأمثلة الراقية من البشر ترفع لهم القبعة وتوجه لهم التحية، فمهنتهم قائمة على مبادئ رائعة هي التي تكشف التركيبة البشرية الصحيحة، لكن في المقابل لا نعدم وجود من يرى في مهنة التدريس «وظيفة» الأهم فيها العائد المادي.
وعلى نفس القياس للأسف بعض الأطباء، الذين ترى في طريقة تعاملهم مع البشر، أو اهتمامهم، مثالاً مناقضاً للصورة «الراقية» التي نرى فيها الطبيب، كـ»ملاك رحمة»، وشخص نذر وقته وحياته ليحقق الإنجاز بخدمة الناس وإنقاذ حياتهم، بعض هؤلاء يرون في مهنة الطب «مورداً مالياً لا ينضب»، ولا يهم إن كانت المعاملة المقدمة للمريض سيئة.
وطبعاً لا بد من التذكير بأن هناك نوعيات من الأطباء ينبغي علينا «تغليف» أياديهم بـ»قماش من ذهب»، وتكريمهم والإشادة بهم لما يمتلكونه من «إنسانية» رفيعة، وأخلاق عالية وقلوب مليئة بالرحمة وحب المساعدة.
أعود لموضوع التعليم المعني بذوي الاحتياجات الخاصة والذين يعانون من الصعوبات، إذ اليوم من المؤسف جداً أن نرى أصواتاً سواء من أولياء أمور أو حتى مدرسين وكأنها «تلفظ» هذه الشريحة من البشر، وكأنها ترى فيهم «عيباً» أن يكونوا في الصفوف وإلى جانب أبنائهم.
رجاء انتبهوا واستوعبوا ما نقول، هذه حكمة الله وقدره لبعض العائلات، وتخيلوا لو كان هذا التلميذ الذي ابتلاه الله هو ابنكم، هل تقبلون بأن يعامله المجتمع بهذه الصورة، أو ترفضه المدارس أو يمتعض منه أولياء الأمور الآخرون؟!
البحرين عبر نظامها التعليمي حرصت على إدماج ذوي الاحتياجات الخاصة، ونعم، هناك بعض السلبيات لكن الإيجابيات تستحق بذل المجهود لأجلها بسبب آثارها الإنسانية.
لن أضرب أمثلة هنا من أمريكا وإيطاليا وبريطانيا رغم أن لهم تجربة طويلة منذ عقود في عملية الدمج مع التذكير بنظامهم التعليمي المتطور، لكنني سأضرب مثالاً على الدنمارك صاحبة المرتبة الأولى في «مؤشر السعادة»، إذ هي طبقت عملية الدمج منذ الستينات، وتبنت نموذجاً فريداً من نوعه «نموذج التعليم المزدوج» والذي يتعاون فيه معلم الصف العادي مع معلم التربية الخاصة للاهتمام بالتلاميذ الذين يعانون من الصعوبات، مع العلم أن 12% من تلاميذ الدنمارك يتلقون تعليماً تحت بند التربية الخاصة.
لا أحتاج للإسهاب بشأن النظام التعليمي في الدنمارك، ويكفي الرجوع للفيلم الشهير للمخرج الأمريكي مايكل مور الذي قارن فيه التعليم في أمريكا مع الدنمارك، والذي فيه أدهش العالم بأسلوب التعليم في الدولة الإسكندنافية، وهذا الفيلم انتشر بشكل رهيب في كافة التلفزيونات والمواقع.
كلمة أخيرة هنا أسجل فيها شكراً وتقديراً للإعلامية القديرة ابنة البحرين صاحبة الحس الوطني والإنساني الأستاذة استقلال أحمد، على ما قالته في البرنامج الصباحي في إذاعة البحرين بشأن دمج التلاميذ ذوي الاحتياجات الخاصة، وذلك حينما رأت انتشار نوع من الثقافة الخاطئة بشأن هذه الشريحة ووجود مطالبات بعزلهم عن أقرانهم الأصحاء.
ومثلما قالت الأستاذة استقلال نقول: هؤلاء بشر، وفيهم من نقاء النفس الكثير، واجبنا مساعدتهم وإدماجهم وألا نشعرهم للحظة بأنهم مختلفون عن أقرانهم، وإن فعلنا سنكون أجرمنا بحقهم وكتبنا عليهم العزلة بقية حياتهم.
من لا يتحرك قلبه وإحساسه للتعاطف وخدمة من يستحق من ذوي الاحتياجات الذين كتب الله عليهم خوض هذه المعاناة والاختبار الدنيوي، لا يمكن أن نصفه بعدها بصاحب قلب أو ضمير.