يعاني التعليم سواء الجامعي أو ما دون الجامعي في الوطن العربي من قصور شديد، وأضحت الحقيقة الوحيدة المؤكدة لجميع القائمين على أمر التعليم والمهتمين به، هي ضرورة الإصلاح وتعذر تحقيقه. وللتعليم الجامعى أهمية خاصة، لكنه يفتقد التربية بشكل كبير. ويؤكد العديد من الخبراء أن التربية التي لا تتناسب مع احتياجات الشعب تفسد مزاجه النفسي.
وأجمع الخبراء والباحثون والأساتذة والكتاب والمواطنون على عدم ملاءمة النظام التعليمي - على الرغم من الجهود التي تبذلها الحكومة كل يوم من أجل إصلاحه - وأن الوقت الذي يقضيه الطلاب في المدارس والجامعات يذهب هباء منثوراً، وأن من يريد أن ينجح في الحياة عليه أن يجدد تعليم نفسه بنفسه، وأن يخصص ما تبقى من حياته لاكتساب المزيد من التعليم والخبرات.
فما العمل إذن؟
أعتقد أنه لابد من التركيز على طريقة التربية والتعليم أولاً، وتغيير نفسية رؤساء الجامعات ثانياً، وتبديل نفسية الأساتذة وافكار الأبوين والطلاب ثالثاً.
أولاً: التركيز على طريقة التربية والتعليم: يكمن السبب الرئيس في سوء نظمنا التعليمية في استيرادها من الخارج، وفي حالة حدوث مشاكل في التطبيق نسعي للإصلاح على الطريقة المستورد منها. فالإدارة تشاهد الداء وتبحث عن الدواء، إلا أنها غالباً لا تصل إلى الشفاء. فالمبدأ السائد أن تغيير البرامج يزيل ضلال النفوس. على الرغم من أن الحقيقة هي: طريقة التعليم – وليست برامجه – هي الواجب تعديلها. فالتركيز على طرق الاستظهار والاستنباط النظري لا يستند إلى حقائق الأمور، ولا يتعلم الطالب منها الملاحظة والتأمل وحسن الحكم على الأمور. فلا يسعى الأساتذة إلى منح الطلاب صفات خلقية تقوم عليها قيمة الرجل الحقيقي في معترك الحياة.
وهنا تبرز أهمية التفرقة بين التعليم العقلي والتعليم الأخلاقي. فالأول، يقوم على الاستظهار وتكرار ما حصل عليه من الكتب والنظريات. والثاني، يقوم على صفات خلقية تدعم الطالب في معترك الحياة. فعلى سبيل المثال، الهنود لا يبالون بغير أمور الذهن، لذا يجتازون كل الاختبارات في الادارة العليا في الهند وغيرها، أما الإنجليز فيهتمون بالخلق الذى تقاس به قيمة الرجل الأدبية، والخلق يقصدون به ثبات الجأش، والعزم، وسرعة السير، والعناد عند المقاومة، والحزم عند الخطر، ومعرفة الواجب نحو الفرد والأمة. وهذا لا يعني أنهم لا يهتمون بأمور الذكاء والكتب والمقالات، وإنما تأتى عندهم في مرحلة تالية.
ومثال آخر، النظام التعليمي في ألمانيا ناجح جداً، لأنه يرسخ الطرق والأساليب في النفوس، ويربي ويعود الطالب على البحث والتنقيب الذي ينفعه في تهذيب نفسه.
وفيما يتعلق بالبرامج، فيجب تصنيف مواد البرامج حسب فائدتها، ثم تطبيق هذا التصنيف على أمور التعليم والإدارة في الجامعات، بتوسيع تدريس مناهج وتضييق أخرى، واستحداث مقررات وإلغاء أخرى، حسب الفوائد المبتغاة من البرنامج.
ثانياً: تغيير نفسية رؤساء الجامعات: لابد من العمل على تحقيق استقلال الجامعات، ورفع يد السلطة التنفيذية عن الجامعات. وأول شيء، وقف تعيين رؤساء الجامعات، ووضع معايير يتم على أساسها اختيار رؤساء الجامعات.
ثالثاً: تبديل نفسية الأساتذة وأفكار الأبوين والطلاب: فمن المهم العمل على تبديل نفسية الأبوين والطلاب لأنهم لا يطلبون الأساتذة إلا بتهيئة الأبناء لاجتياز الامتحان، وأسهل طريقة عندهم هي حفظ سلسلة من الكتب عن ظهر قلب، والتى لا تمنحهم سوى معارف مؤقتة غير ثابتة، وعليهم أن يراجعوا طرق التعليم التجريبي المغذي للروح، ليصير التعليم ليس بالاطلاع بل بالتعلم كيف تطلع، ولا بالإبداء بل بالتلقين، وليس بالاختصار بل بتعيين المطلب، وليس بالاستظهار بل بجعل الطالب قادراً على الاختيار والتفكير والعزم والسير.
فالمبدأ القائل، قيمة الرجال بشهاداتهم التى يحملونها، وعلى رأسها شهادة الدكتوراه فالماجستير فالبكالوريوس أو الليسانس، مبدأ خاطئ، وبما أن الأستاذ حامل لجميعها فيظن نفسه من جوهر رفيع، فضلاً عن شعوره باعتباره الأقل في الحياة براتبه الضئيل، ويفكر في إقامة مجتمع جديد ينال منه مكاناً جديراً بفضائله. ولو أمعن النظر لأدرك أن الناس في العالم يتفاوتون بمزايا تختلف عن صفة الذاكرة التى تنال بها الشهادات، وتصل بهم الأمور لمقت المجتمع الذي يعدون أنفسهم من ضحاياه، وقد زاد حقدهم على المجتمع عندما اكرهوا على ملازمة الجامعات.
ومن الأساتذة من يخاف ويسعى إلى استرضاء رؤساء الجامعات بحيث يفسرون حوادث الماضي بمبادىء الحاضر، ومنهم من يدفعه الخوف لعدم اقرار بعض الحقائق في كتبهم، وبالتالي وجب تغيير روح الأساتذة.
إن العلم والصناعة دفعا العالم إلى الاهتمام ببعض الصفات الخلقية وأن من يمتلك زمام العلم والصناعة والتجارة رجال متصفون بملكة الاستنباط والاختيار وقوة الإرادة وصحة التمييز وضبط النفس، وهي صفات غير متوفرة أو متولدة من نظمنا التعليمية.
إن النظام التعليمي هو المسؤول عن الشرور في المجتمعات العربية، وأن أساتذتنا – سواء من منهم في الإدارة أو في التدريس – يتحملون جزءاً كبيراً من المسؤولية.
وفي الختام، لا يمثل هذا المثال إهانة لأحد أو تقليل من شأن أحد، فقد تعلمنا على أيدي أساتذة عظماء، تعلمنا منهم التربية قبل التعليم، وإنما هي محاولة للبحث عن الأسباب وراء تراجعنا.