لم يكن خافياً أبداً دور العوامل الخارجية في فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية. كان أهم هذه العوامل التدخل الروسي العلني، غير المسبوق، ضد هيلاري كلينتون، حيث تولت موسكو الكشف عن بريدها الإلكتروني، مما أضعف موقفها الانتخابي، وبالنتيجة عزز موقف خصمها دونالد ترامب.
قصة البريد الإلكتروني
في بداية عام 2015، وحتى قبل الإعلان رسمياً أنها ستترشح لانتخابات الرئاسة، كشفت تقارير صحافية أن هيلاري كلينتون كانت تستخدم، خلال توليها وزارة الخارجية، بريداً إلكترونياً خاصاً بدلاً من حساب تابع للحكومة. أثارت تلك الأخبار جدلاً واسعاً نظراً لاحتمال تعرض المعلومات الرسمية لخطر القرصنة. إذ إن العادة جرت أن يتم منح المسؤولين حسابات بريدية محمية تابعة للدولة، لكن كلينتون اختارت ألا تستخدم الحساب الرسمي. وقد تعرضت نتيجة هذا الكشف الصحافي، إلى أنواع من التهم، كتعريض الأمن القومي للخطر، والإهمال، وخلافه. وظلت هذه القصة تلاحقها طوال حملتها الانتخابية، إلى أن خرجت منها مهزومة.
تدخل كلينتون في انتخابات 2012 في روسيا
لقد استغلت موسكو مسألة البريد الإلكتروني كي تنتقم من كلينتون نظراً لأنها شجعت الاحتجاجات التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الروسية الأخيرة، في شهر مارس 2012، والتي أُعيد فيها انتخاب فلاديمير بوتين رئيساً، لروسيا الاتحادية. فقد كانت المعارضة الروسية، والمنافسون الأربعة لبوتين، قد شككوا في نزاهة العملية الانتخابية. ومع أنه حصل على 65% من أصوات الناخبين الروس، إلا أن المعارضة اتهمته بتزوير النتيجة، وترتب على ذلك مظاهرات حاشدة وواسعة احتجاجاً على فوز بوتين. فقامت السلطات بحملات اعتقال لقادة المعارضة الروسية مما زاد في وتيرة الاحتجاجات، في ظل أجواء سياسية متوترة. ورغم تقبل الغرب عموماً لنتيجة الانتخابات الروسية، بما فيه البيت الأبيض، إلا أن الخارجية الأمريكية كانت دائمة التعبير عن «قلقها العميق» مما يتعرض له قادة المعارضة الروسية، الأمر الذي فهمه الروس على أنه تشجيع من كلينتون على مزيد من المظاهرات في روسيا، وبالتالي زعزعة الاستقرار السياسي في البلاد.
الانتقام الروسي من كلينتون
فلما كانت هيلاري كلينتون على رأس وزارة الخارجية في حينه، وهنا بيت القصيد، إذ اتهمها بوتين بكل صراحة أنها هي التي شككت في نزاهة الانتخابات الروسية، التي أُعيد انتخابه فيها، وألقى باللوم عليها لتشجيع الاحتجاجات الشعبية، ضد فوزه، التي أعقبت الانتخابات. وبناء عليه قرر بوتين تصفية الحساب مع كلينتون، وأن يرد لها الصاع صاعين. ومن هنا جاء تدخل روسيا، غير المسبوق، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
ونجح الروس في إلقاء ظلال من الشك على نزاهتها، في سابقة خطيرة لم تحدث من قبل. إذ كانت الانتخابات الأمريكية دائماً فوق الشبهات. أصبحت انتخابات 2016 كلها شبهات، نتيجة الجهود التي بذلتها روسيا. حتى أن الشك، بنزاهتها، انتقل إلى دونالد ترامب، الذي هدد سلفاً برفض النتائج، فيما لو خسر، وبتحريك ميليشياته! وهو أمر، أيضاً، خطير ولم يحدث من قبل، أن شكك مرشح رئاسي أمريكي بنزاهة الانتخابات، وتوعد بعدم قبول النتيجة، فيما لو كانت ليست في صالحه.
وهناك أيضاً سابقة أخرى، إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها مرشح رئاسي، مثل ترامب، بإبداء الإعجاب بزعيم دولة كبرى أخرى، ويصفه بأنه أفضل من رئيس بلاده، باراك أوباما. هذه أمور كانت غريبة جداً على الأجواء الانتخابية في أمريكا، والأغرب أنها جاءت بتأثير التدخل الروسي على مسار العملية الانتخابية ونتيجتها.
استراتيجية التدخل الروسي
استنفرت أجهزة الأمن الأمريكية على كافة المستويات، خلال الحملة الانتخابية، ووجهت أصابع الاتهام إلى روسيا بأنها تقف وراء قرصنة ونشر رسائل البريد الإلكتروني، للمرشحة كلينتون. وجاء تصريح أحد قادة المعارضة الروسية ليؤكد تدخل الكرملين، في الانتخابات الأمريكية، ويضع الأمر في سياقه العام، ويكشف الاستراتيجية الجديدة التي يبدو أن روسيا بدأت باتباعها. إذ قال إن بوتين «أراد إضعاف سياسيي النظام القديم في أي مكان، وزعزعة الوحدة التي جعلت الغرب البديل الوحيد لجميع النظم غير الديمقراطية» في العالم. وهذا يوضح أن استراتيجية روسيا في التدخل المباشر، في الدول الأخرى، ربما أصبحت الآن سمة من سمات سياستها، مما يعني أنها ستنطلق خارجياً في تدخلاتها العسكرية، كما حصل في سوريا، وتدخلاتها السياسية، كما حصل في الانتخابات الأمريكية، وكما يحصل الآن في أوروبا، وخاصة ألمانيا، التي تشكو من أن روسيا تستهدف «زعزعة» استقرارها بهجماتها الإلكترونية على الأحزاب السياسية الألمانية.
الخلاصة إذن، أن روسيا بوتين أخذت على عاتقها تقليد أساليب دول الغرب في التدخل الخارجي، وهو أمر استجد في عهد الرئيس الحالي، ويبدو أن القرار قد اُتخذ، والاستراتيجية قد وُضعت، والتنفيذ قد بدأ، منذ أكثر من عام، عند بدء التدخل العسكري في سوريا، ثم التدخل السياسي في أمريكا، ثم في أوروبا. وتزامن هذا التغيير في استراتيجية روسيا مع بداية تفكك عرى الاتحاد الأوروبي، وبوادر تصدع حلف شمال الأطلسي «الناتو»، وتخلي الدول الكبرى عن تفاهمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، مما سيضع العالم بأسره على صفيح ساخن. فهل سوف يلين ترامب لبوتين؟ وعلى حساب من؟
* إعلامي أردني