نحيي، نحن معشر العرب كل عام، ذكرى وعد بلفور، دون أن ندرك معانيه. وهو الوعد الذي تعهدت بموجبه بريطانيا بأن تجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود. وقد صدر الوعد حتى قبل أن تحتل القوات البريطانية فلسطين. ويبدو أن الإنجليز كانوا في عجلة من أمرهم لإصدار هذا الوعد المشؤوم قبل أسابيع من احتلال القدس. إذ صدر الوعد في 2 - 11 - 1917، واحتلوا غزة في 7 - 11 - 1917، في محاولتهم الثالثة. ثم زحفت قواتهم، بقيادة الجنرال إدموند اللنبي، نحو القدس، التي حوصرت وقُصفت بالمدفعية، مما اضطر متصرفها التركي، عزت بك، إلى تسليمها دون قتال. وانسحبت القوات العثمانية، بعد حكم دام 400 عام، لتحل محلها القوات البريطانية، وذلك بتاريخ 11 - 12 - 1917، أي قبل 99 عاماً.
ما وراء الوعد المشؤوم
المعروف أن التنافس بين القوى الاستعمارية، وبين تلك القوى الطامحة إلى الاستعمار، هو الذي أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، والتي كانت إحدى نتائجها احتلال القوى الأوروبية للمشرق العربي بما فيه فلسطين. كان الأوروبيون يحلمون بهذا لقرون طويلة. لكن الدولة العثمانية كانت سداً منيعاً في وجههم. ومن هنا أخذوا يتآمرون لإضعافها، وقضم ممتلكاتها بدءاً من الأطراف وصولاً إلى القلب، مع نشوب الحرب العالمية الأولى، التي تحالف العثمانيون فيها مع ألمانيا، مقابل بريطانيا وفرنسا وروسيا.
أمضى الأوروبيون قروناً يتدارسون كيف يعودون إلى المشرق، مثلما فعلوا في الحملات الصليبية الأولى، وكيف يبقون إن دخلوه. إذ إنهم أدركوا من تجربتهم السابقة، التي دامت قرابة المائة عام، أن المسلمين لن يقبلوا بهم أبداً من منطلق العداء التاريخي المستحكم في النفوس، الناتج عن مرارة الحروب الصليبية، التي انتهت، عام 1187، بتحرير بيت المقدس وهزيمتهم على يد صلاح الدين الأيوبي.
«دولة يقيمها التوارتيون»
من هنا جاء دور دهاء الإنجليز، أو خبثهم إن شئت، الذين يقال إنهم أرسلوا عام 1850 ضابط استخبارات، ليعيش في القدس، ويدرس الأوضاع، ويعود بإجابة على سؤال واحد مهم: ما هي أنجح الأساليب لديمومة بقاء الأوروبيين في فلسطين عندما يحين وقت دخولهم إليها، وتحت أي غطاء يبقون فيها؟ وبقي الجاسوس الإنجليزي، في القدس، مدة عامين، عاش خلالهما بين الناس، بعيداً عن أعين السلطات العثمانية، ودرس الأوضاع جيداً، وسجل انطباعاته، ثم غادر عائداً إلى بلاده، ليقدم تقريره. كانت خلاصة توصياته أنه بإمكان الأوروبيين أن يعاودوا احتلال فلسطين، لكن ليس تحت الراية الصليبية، كما فعلوا في الماضي، فهذا يستفز مشاعر المسلمين، وأوصى أن يتم ذلك تحت راية جديدة وغطاء مبتكر.. «دولة يقيمها التوارتيون» أي اليهود. واقتنع سادة الإنجليز بهذا.
ولكن لماذا اليهود؟ السبب أنه لم يكن هناك عداء بينهم وبين المسلمين، وسيكون تهجيرهم إلى فلسطين وتوطينهم فيها أقل إثارة، وأخف وطأة على مشاعر المسلمين، فيما لو كانوا أوروبيين مسيحيين، فذلك يُعيد التذكير بالحروب الصليبية، فيتجدد العداء المستحكم في نفوس المسلمين ضد الصليبيين. إذن الوصفة أصبحت جاهزة، وبقي الآن التخطيط والتنفيذ.
إيجاد القومية الصهيونية.. التفاف على الديانة اليهودية
لكن، كيف يقنعون يهود أوروبا بأن يكونوا رأس حربة لقتال المسلمين دون وجود عداء بين الجانبين. أضف إلى ذلك وجود معضلة أخرى، وهي أن هناك اعتقاداً دينياً سائداً بين اليهود أن تجمعهم في فلسطين سيؤدي إلى القضاء عليهم. وهنا أيضاً تفتق ذهن حكماء الإنجليز مرة أخرى عن حل.. ألا وهو أن يتم إيجاد «قومية لليهود»، وقوميات أخرى أيضاً، كي يضعوا تعاليم دينهم جانباً، ويسيروا حسب الأفكار «القومية»، ومن هنا جاءت الفكرة الصهيونية، بهدف الالتفاف على الديانة اليهودية. ولقد استغرقهم إيجاد الصهيونية ونشرها، وحشد الاتباع لها بين يهود أوروبا، نحو نصف قرن، حتى أواخر القرن التاسع عشر، حين عُقد أول مؤتمر للصهيونية، في بال بسويسرا، عام 1897. كما استغرقهم خمسين عاماً أخرى لتنفيذ مشروع الدولة اليهودية وإقامتها فعلياً، عام 1948، على أرض فلسطين.
يهود أوروبا عارضوا الصهيونية
في ذلك الوقت، كان يهود أوروبا يتمتعون بحقوق، لم يحلموا بها من قبل، جاءت بها الثورة الفرنسية، التي عالجت «المسألة اليهودية» عن طريق «الاندماج» والذوبان في المجتمعات الأوروبية. لذلك لقيت الفكرة الصهيونية معارضة قوية من اليهود، الذين كانوا بطبيعتهم متدينين ويؤيدون «الاندماج». وهنا تحول رعاة الفكرة إلى غير المتدينين من اليهود، الذي كان تعليمهم يغلب عليه الطابع المسيحي الغربي العلماني، أمثال ثيودور هيرتزل، الصحفي اليهودي النمساوي الشاب، الذي يسمونه اليوم تجاوزاً بـ «مؤسس الصهيونية»، والذي هو نفسه عارض الفكرة الصهيونية، في البداية.
لقد حمل لواء القومية الصهيونية نفر قليل من اليهود العلمانيين في أوروبا، في ظل معارضة شديدة من أبناء جلدتهم. حتى أن مؤتمرهم الأول كان يُفترض أن يُعقد في مدينة ميونيخ، بألمانيا، لكنه نُقل إلى مدينة بال، في سويسرا، تحت ضغط من حاخامات اليهود وجمعياتهم في ألمانيا. كانت الصهيونية مدعومة من قبل دولة عظمى هي بريطانيا التي ظلت ترعى الفكرة، لعقود طويلة، حتى أُعلنت رسمياً في مؤتمر هرتزل.
الصهيونية.. وضعها مفكرون غير يهود
وبهذا استطاعت بريطانيا أن توجد، في غضون خمسين عاماً من العمل الدؤوب، قيادة علمانية ليهود أوروبا. وتمت بلورة الفكرة الصهيونية، في منتصف القرن التاسع عشر، على يد مفكرين غير يهود، بل ومعادون لليهود واليهودية. كان المهم أن يجعلوا منهم أداة استعمارية، ورأس حربة، للانقضاض على المشرق العربي.
أخذ «صهاينة» أوروبا، على قلتهم، بالتحرك في كل اتجاه لحشد التأييد للقومية الصهيونية، معتمدين على دعم بريطانيا، الفكري والمالي والسياسي وغيره. ويبدو أن الأمر كان على درجة من الاستعجال لمشروعهم في فلسطين، فقاموا بإيصال هرتزل لمقابلة السلطان عبد الحميد الثاني ليعرض عليه المال مقابل التنازل عن فلسطين، هكذا بكل بساطة..! فرد عليه السلطان رداً قاسياً في أول مرة، وطرده في المرة الثانية. وبما أن الدولة العثمانية كانت أصلاً مستهدفة بالتفكيك من قبل أوروبا، فيما عُرف تاريخياً بـ «المسألة الشرقية»، وها هي الآن ترفض التنازل عن فلسطين، فكان لا بد من التفكير بالاحتلال العسكري، وجاءتهم الفرصة سانحة في الحرب العالمية الأولى. وكان للأوروبيين ما أرادوه، إذ تخلصوا من الدولة العثمانية، وورثوا ممتلكاتها، بما فيها فلسطين. وهذا ربما يفسر استعجال بريطانيا بإصدار وعد بلفور حتى قبل دخول قواتها إلى فلسطين.
مئة عام من المآسي
لقد حقق الأوروبيون حلم العودة إلى المشرق، وهو حلم طالما راودهم على مدى قرون. فكانت عودتهم، امتداداً واستكمالاً للحروب الصليبية، التي كانت في الأساس حملات استعمارية من أجل الثروات، أكثر من أي شيء آخر. لأن أوروبا كانت وقتها متخلفة، وفي أوضاع اقتصادية مزرية، فجاؤوا لتحسين أوضاعهم.
الخلاصة إذن، أن بلاد العرب والمسلمين مستهدفة على مر الزمان، وما قضية فلسطين إلا الشاهد الأبرز على ذلك. وقد جاءت المآسي التي أُبتُلينا بها، منذ مئة عام، وما زلنا حتى اللحظة، بسبب تنافس وتصارع الدول الطامعة في خيراتنا. وهذا هو أصل الحكاية. فهل يعيد التاريخ نفسه في الشرق الأوسط؟
* إعلامي أردني