سأل أكاديمي ومفكر أمريكي صديقاً عربياً له، تربطه به علاقة زمالة قديمة، عن رأيه بمجريات انتخابات الرئاسة الأمريكية. أجابه المراقب العربي المخضرم: «لو كنت عربياً، لا أحب أمريكا وأضمر لها الشر، لأعطيت صوتي إلى دونالد ترامب، ولو كنت أمريكيا وطنياً، أحب بلادي، لأعطيت صوتي إلى هيلاري كلينتون». معنى هذا القول: أن من يكره أمريكا يؤيد أن يأتيها رئيس على شاكلة ترامب، ومن يحبها يؤيد أن تفوز كلينتون، على اعتبار أن مجيء ترامب ليس في صالح أمريكا.
تأثيرات روسيا واليمين البريطاني على الانتخابات
حتى قبل فوز ترامب، تواترت الأخبار حول التأثيرات الخارجية على الانتخابات الأمريكية. وكان تدخل روسيا هو الأوضح، عن طريق إضعاف حملة كلينتون، بفضيحة البريد الإلكتروني، والوصول إلى نتيجة فوز ترامب. وهناك أطراف أخرى تمنت هذه النتيجة، التي أرادها فلاديمير بوتين. ونجد هنا أن مصالح روسيا ربما تكون قد تقاطعت مع مصالح اليمين المتطرف في بريطانيا، الذي تدخل أحد سياسييه مباشرة لصالح ترامب، وفي وضح النهار، بينما كان تدخل روسيا في الخفاء.
نايجل فرج.. من أصل عربي ينتمي لليمين المتطرف
جاء تدخل اليمين البريطاني المتطرف لصالح ترامب بواسطة نايجل فرج، مؤسس ورئيس «حزب استقلال المملكة المتحدة»، الذي تزعم حملة خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي، ثم لعب بعدها دوراً مهماً في حملة ترامب. يبلغ فرج من العمر 52 عاماً، ويقول إنه ينحدر من أصل فرنسي. لكن اسمه يدل على غير ذلك، إذ يقول بعض الجزائريين في بريطانيا إن أصله من الجزائر، وهاجرت عائلته إلى فرنسا ثم إلى بريطانيا. ويؤكد هذا اسم «فرج» الدارج في شمال أفريقيا.
دخل نايجل عالم السياسة في بريطانيا، أوائل التسعينات، عندما شارك في تأسيس حزب الاستقلال، الذي كان هدفه الأساسي الدعوة إلى انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. وانتخب عضواً في البرلمان الأوروبي عام 1999. ثم ترأس حزبه، عام 2006، الذي عمل على مدى 23 عاماً لتحقيق الانفصال. لذلك قال نايجل، عقب ظهور نتائج استفتاء، يونيو 2016، بالخروج من الاتحاد «آن الأوان أن أحلم ببزوغ فجر بريطانيا المستقلة. لقد استعدنا بلدنا». وقد لعب نايجل دوراً محورياً في الاستفتاء، وعرف بخطبه النارية التي كانت تتصف بالمبالغة، وتصل حد الكذب والخداع، لإقناع الناخبين بالتصويت لصالح الخروج.
دور نايجل في حملة ترامب
وما أن حقق نايجل حلم حياته على المستوى الداخلي، بالتصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى تحرك فوراً للعمل على المستوى الدولي، فتوجه صوب الولايات المتحدة، حيث كانت انتخابات الرئاسة في ذروتها. فزار دونالد ترامب، وشارك في حملته، وألقى خطاباً داعماً له، بولاية مسيسيبي، أمام 15 ألفاً من مؤيديه، الذين رحبوا بحفاوة بنايجل كونه أول سياسي بريطاني يتدخل علناً في انتخابات أمريكية. وقد أشاد ترامب بنايجل ووصفه بـ«الرجل الذي أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي». ورد نايجل، وسط تصفيق الآلاف له، أنه لو كان أمريكياً فلن يصوت لصالح كلينتون «حتى لو دفعت له مقابل ذلك». وقارن بين خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي وانتخاب ترامب رئيساً. كما حضر مؤتمر الحزب الجمهوري، وقدم النصائح لحملة ترامب، من واقع تجربته، بأن تركز على استقطاب الناخبين الذين لا يصوتون في العادة. وأخبرهم أنه استطاع استقطاب 2.5 مليون ناخب، ممن لا يصوتون أصلاً، للمشاركة في استفتاء بريطانيا. وكانت هذه أحد التكتيكات التي اتبعتها حملة ترامب في الأشهر الأخيرة.
نايجل يتهم أوباما وكلينتون باحتقار الإنجليز
بعد فوز ترامب، زار نايجل فرج أمريكا، وقال بعد اجتماعه مع الرئيس المنتخب: «إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعني فرصاً عالمية هائلة. وأول ما ينبغي على المملكة المتحدة أن تبدأ به هي الولايات المتحدة مع دونالد ترامب». وكشف أن ترامب سيعطي أولوية في التبادل التجاري لبريطانيا، ووصف ذلك بأنه تغيير إيجابي عما كان يفعله أوباما وكلينتون، واتهمهما بأنهما كانا يحملان للإنجليز «نظرة احتقار». وقد برزت أصوات برلمانية في بريطانيا تدعو لمكافأة نايجل بمنحه لقب «لورد»، على نجاحه في التأثير على ترامب.
تلاقٍ فكري بين نايجل وترامب
لقد استهوى ترامب المخاضُ الذي يجري في عموم أوروبا، والذي ربما يؤدي إلى تغييرات سياسية جذرية في القارة العجوز وفي العالم، خاصة بعد الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي. كما استهوت نايجل فرج التغييراتُ التي يدعو إليها ترامب في أمريكا. ولهذا التقى الاثنان فكرياً، لدرجة أن طلب ترامب أن يتم تعيين نايجل سفيراً لبريطانيا في واشنطن، ليكون قريباً منه. وهذا أمر مستغرب في الأعراف الدبلوماسية. فردت لندن بالاستهجان والرفض. ولم ييأس ترامب وقرر أن يعين نايجل مستشاراً «غير رسمي» له، كما أعلن مقربون من الرئيس المنتخب.
الخلاصة إذن، أن سياسة العجرفة، التي اتبعتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، لا تجلب لواشنطن إلا مزيداً من الخصوم. فها هو أوباما، في آخر مؤتمر صحافي له، يؤكد هذه النظرة الدونية للقوى الأخرى، حين وصف روسيا بأنها «دولة من الدرجة الثانية لا تملك سوى الغاز والنفط والسلاح». فنهج أمريكا، في التكبر والتعالي، يستعدي عليها قوى أخرى فاعلة في العالم، مثل روسيا وبريطانيا وغيرهما، لدرجة تقود للرد والانتقام، الخفي والعلني، كما حصل في التدخلات لصالح ترامب. فبوتين يرى أن كلينتون هي من تدخلت أولاً في بلاده، بعد انتخابات الرئاسة الروسية عام 2012، محاولة زعزعة استقرارها، فانتقم منها. ثم جاء السياسي اليميني البريطاني نايجل فرج ليلمح أن سبب تدخله في الانتخابات، لصالح ترامب، نابع من «نظرة الاحتقار» التي يتهم أوباما وكلينتون بأنهما يحملانها للإنجليز. والنتيجة هي عودة الدول الكبرى إلى صراعات الماضي. فهذا هو لعبُ الكبار، فأين لعب الصغار؟
* إعلامي ومحلل سياسي أردني