مما لا شك فيه أن متابعة الأوضاع الأمنية والسياسية كفيلة بأن تعكر صفو الأوقات القليلة التي نجلسها برفقة الأهل أمام شاشة قلّ فيها المفيد، وكثُرَت فيها العشوائيات المبتذلة.

فخلال اختياري من بين محطات التلفاز بجهاز التحكم عن بعد، استوقفتني وجذبت مسامعي موسيقى تصويرية لأحد البرامج الوثائقية على قناة «الحياة» المصرية، وخلال تقديم المذيع الفذ «أحمد رجب» فقرته والتعريف بها يظهر الإعلان التالي على الشاشة: «أنتم تشاهدون الآن برامج مهمة خاصة، «من قرية بني مر - محافظة أسيوط» - أسرار وحكايات». حقيقة المكان لا يمُت لي بصلة وأسراره وحكاويه لا تعنيني من قريب أو بعيد، ولكن السبب لهذا البرنامج هو الذكرى السنوية ليوم مولد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر حسين بتاريخ 15 يناير 1918، والتي مرّت مرور الكرام على الكثيرين للأسف. فكان هذا السبب كفيلاً بأن أتسمر على المقعد وأتعرف على مسقط رأس زعيم زعماء العرب «جمال عبدالناصر حسين» أبو خالد.

فقد قام المذيع أحمد رجب بجولة تفقدية أمام الجمهور للمنزل، وقد توقعت وقتها وأنا متأكدة من أنني سأشاهد ثريات الكريستال والستائر الحريرية وأطقم الكنب المخملية المصنعة بطراز إنجليزي فاخر والسجاد الكشميري، وإذا بي تنتابني حالة من الذهول، المنزل خالٍ من الروح، منزل مهجور منكوب وبيوت العنكبوت تغزوه، منزل يعاني من تصدع في الأعمدة وتشققات في الجدران، أي بالمختصر المفيد المكان آيل للسقوط من دون شكوك.

وسبقت هذه الصدمة قصص خاصة جداً كانت مفاجأة أدلى بها ابن عم الزعيم وهو الحاج علي عطية حسين عن قصة صارت بين والد الحاج علي والزعيم الراحل. في يوم قصد العم عطية بيت ابن أخيه أي الزعيم جمال عبدالناصر، وسأله «إن كان بإمكانه مساعدته فالحالة المادية أشبه بالعدم خاصة وأن لديه 10 أبناء».

فرد عليه الزعيم وقال له: «يا عمي أنا عارف ظروفك وعارف أولادك ولكن أنا لا أملك أعمل معاك أي شيء غير أني أديك من مرتبي الخاص، أبناؤك هم أبنائي»، وبالفعل خصص الزعيم مبلغاً شهريا ًقيمته 30 جنيهاً من راتبه الخاص، وواظبت السيدة تحية قرينة الرئيس الراحل، على إرسال المبلغ حتى بعد وفاة الزعيم إلى أن أتم الأولاد العشرة للعم تعليمهم».

تخيلوا.. زعيم أمّة يستقطع من راتبه الشهري ولم يمُد يديه على أموال الناس، أموال الحكومة، ولم يسرق ولم يبطش، ولم يتصل كي يحصل على واسطة من فلان أو علان.

كنت أشاهد الحلقة ولا أخفِ عليكم سراً أنني لم أستطع أن أتحكم في دموعي. وإن لم أكن مصرية، ولكن تجمعني بهذا الإنسان الزعيم عروبة لا تقدّر بثمن، فيعز عليّ هذا الإهمال من معنيين ومسؤولين في مصر للبيت الذي ينتمي إليه هذا الرجل العصامي، البيت الذي يشهد على أهم حقبة في تاريخ أم الدنيا، مصر، هذا البيت الذي ضمّ بداخله أهم اللقاءات والندوات والاجتماعات العسكرية لضباط مجلس قيادة ثورة 23 يوليو آنذاك. فمن المؤلم أن يكون بهذا الشكل الذي رأيته، بل من المفروض أن يكون من أهم المزارات السياحية!

وللحديث والأسرار والحكايا بقية...