فاطمة عبدالله خليل:

مازال التاريخ يحفظ بواكير المزاج الوحدوي على الضفة الغربية للخليج العربي، والتي رفع لواءها المؤسسين الأوائل، فتلك القامات تولت مهمة تحويل حلم الإخاء الخليجي والتعاضد السداسي من حلم ورغبة إلى حقيقة، شيدوا قواماتها في حاضرهم لتغدو المستقبل الذي ننعم به اليوم كخليجيين تحت مظلة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومنذ كواليس التأسيس الأول في العام 1976 كانت الرؤى الثاقبة تقود الخطى الخليجية نحو استشراف المستقبل، منطلقة من منظور «في الاتحاد قوة»، الأمر الذي عمل على التعجيل بإتمام وحدته المغفور له بإذن الله الملك عبدالله بن عبدالعزيز خادم الحرمين الشريفين الراحل. ولا شك أن ضرورة الاتحاد بغض النظر عن هيكله من القوى التي كان الخليج العربي بحاجة ماسة لها، وهو ما لمسناه فعلياً بعد أن عصفت الرياح بالمنطقة من كل صوب وناحية، وأوشك الخليج العربي أن يتقلب في فوهة بركان من داخل المنطقة الإقليمية وخارجها، لنتذوق بإمعان لذة أن ننضوي معاً في كيان خليجي واحد ذي ثقل سياسي وله اعتبار دولي.

ولكن العودة إلى التاريخ تجرنا إلى تفصيلات دقيقة عفى عليها الزمن ولم تنل حقها بما يكفي في التمحيص والإمعان، فبينما اجتهد الآباء في الدعوة للتعاون الوحدوي المشترك، والتنقل من دولة خليجية لأخرى لعقد المشاورات مع حكامها، كان هناك ما يحاك في أروقة الدواوين، وكانت ثمة أقلام قد أخذت في رسم الخطوط العريضة لهيكل المنظومة الخليجية، والتأصيل لها بأوراق ومرئيات استشرافية، ومن بين هؤلاء المخططين في الكواليس التقينا محدثنا اليوم الدكتور شملان العيسى وهو مفكر كويتي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت. وقد ارتأت «الوطن» أن تبدأ مع العيسى حيثما انتهى الحديث عنده، ولكن.. من حيث بدأ هو في مسيرة عطائه عندما كان خريجاً حديثاً من جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو، قادماً إلى الكويت محملاً بالعلم والفكر.



لقد جاءت «الوطن» وعبر «ضفاف الخليج» لتَسمع وتسمع صوتاً آخراً غير تلك الأصوات التي لطالما حملت بين طيات حديثها التأييد المطلق لكل المجريات، فيحدثنا «العيسى» عن تجربته الثرية منذ التأسيس وتقييمه لمشروع «الاتحاد الخليجي» المرتقب قائلاً «لقد كنت ممن كتبوا الورقة الأولى الكويتية لتأسيس دول مجلس التعاون، وكانت تقوم هذه الرؤية في العام 1981 على توحيد دول الخليج العربي، وأن الطريق لتحقيق الوحدة -بحكم خبرتي ورصيدي المعرفي المستقى من التجارب الوحدوية العالمية؛ التجربة الأمريكية، التجربة الإيطالية، والتجربة الألمانية، أن تجارب الوحدة تقوم على حاجة ماسة لتوحيد الشعب بحكم المصالح، ولذلك كانت رؤيتي ربط مصالح الشعوب، غير أن أطروحات أخرى لبعض الزملاء قامت على تحقق الوحدة الخليجية عن طريق الحكومات من خلال توحيد الأجهزة الأمنية والتربوية والصحية وغيرها حتى تتحقق الوحدة، وقد جرى العمل بالنموذج الثاني غير أني مازلت أنظر للوحدة أنها لن تتم إلا من خلال توحيد مصالح الشعوب الخليجية».

وأردف العيسى «نرى اليوم كيف أن الأمن هو الذي وحد دول الخليج العربي، من خلال التنسيق الأمني القوي، وليس هناك ثمة مشاريع تنموية حقيقية جامعة. وإذا أردنا الاتحاد الحقيقي من المهم الوقوف على العراقيل التي تعرض لها ملف صندوق النقد الذي تأرجح بين وجهتي نظر حتى توقف الحديث عنه. ومن أجل الوحدة فيجب الاعتراف أننا نواجه مشكلة السيادة في الخليج العربي، رغم المعارضة العمانية في بادئ الأمر، والتي ما لبثت حتى لحقتها الكويت -على المستوى الشعبي- خوفاً من تقويض الحريات التي تتمتع بها مقارنة ببقية دول الخليج العربي الأخرى. وباعتقادي فإن التفكير المنفرد غير المعلن في المصالح وفي السيادة والأمن والتجارة لن يقود لإتمام مهمة الوحدة».

وحول العلاقات الخليجية الأمريكية أفاد العيسى «أعتقد أن الفرصة باتت سانحة جداً لدول الخليج العربي؛ لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، مع قدوم إدارة جديدة تختلف تماماً عن الموقف التقليدي الذي اتخذته الولايات المتحدة في عهد أوباما، فـ«ترمب» له موقف واضح ويريد أن تكون العلاقات متبادلة فأمريكا حامية والخليج ممولاً. بمعنى أن الأمريكان يقوموا بتوفير الحماية ويقوم الخليج العربي بالمقابل بالتمويل وتكبد التكلفة، وكذلك المساهمة الأمريكية في حماية الدول من الإرهاب بينما تتحمل التكلفة دول الخليج». وأرجع العيسى التمويل الخليجي المفرط مؤخراً إلى أن «دول الخليج متحفزة جداً لحكومة ترمب جراء موقفه القوي من إيران، وهو ما يباركه الجميع في الخليج العربي»، وحول هذا الشأن أضاف «رغم أنه موقف قد يحمل في طياته بعداً إيجابياً إلا أنه قد يدفع إيران لمزيد من التطرف».

التمويل الخليجي مخيف

ووقف العيسى على موضوع التمويل الخليجي لأزمات المنطقة بقوله «إنه لمن المخيف الحديث عن التمويل الخليجي للمنطقة الآمنة للاجئين السوريين داخل سوريا، فهي فكرة طرحتها تركيا بداية ورفضها الأمريكان والأوروبيون نظراً لكونها عملية مكلفة جداً، فنحن نتحدث عن ملايين البشر، بتكاليف تشمل إقامتهم وتغذيتهم وتعليمهم وصحتهم وكافة مستلزمات حياتهم الأخرى، والخوف أن تكون دول الخليج هي من تدفع التكلفة، ويبدو أن ترمب يتطلع لذلك، فهي عملية مكلفة للغاية، وتتطلب مجهود دولي، ويجب أن تكون عملية دولية وليست خليجية، وبالتالي تدفع دول الخليج جزءاً من التكلفة وليست كلها، خصوصاً وأن انخفاض أسعار النفط أفرزت أزمات اقتصادية كبرى في الخليج العربي، وانعكست على الشعب في عدم القدرة على إيجاد وظائف ومصادر بديلة عن النفط، وهو ما يتطلب حكمة ورؤية».

مشكلات

العالم العربي

وفي هذا السياق تساءلت «الوطن» إن كان هذا التمويل نابع من حقيقة أن الخليج يقود العالم العربي مؤخراً، فنفى العيسى الأمر بقوله «لا أعتقد أن الخليج يقود العمل العربي تماماً، ففي ظاهر الأمور يبدو ذلك من خلال التمويل لحرب اليمن وسوريا، ولدينا في الخليج التنسيق مع دول التحالف الغربي، لكن هل يقود الخليج العربي العرب؟ لا أعتقد ذلك». وأردف العيسى بقوله «لدينا قضية ليبيا مثالاً، فهناك اختلاف مع مصر حول أن يكون الشأن الليبي تحت مظلتها، كما إن الاختلاف واضح بين الخليج ومصر في قضايا متعددة كسوريا؛ فبينما تؤيد مصر «حكم بشار»، تدعم الدول الخليجية المعارضة السورية وتأسيس حكومة توافقية، أما حول العراق فالدول الخليجية تدعو لحكومة وطنية مشتركة تقوم على التوافق بين السنة والشيعة»، ثم توقف عن الحديث لبرهة وحسمه بقوله «تبقى الكلمة الفصل للحكومة الأمريكية الجديدة، والتحولات التي ستحدثها من خلال سياستها تجاه المنطقة العربية».!!

متغيرات دولية

ونظراً لتركيز العيسى على العلاقات الخليجية الأمريكية سألته «الوطن» حول «الناتو» الذي عبر عن التعاون معه بقوله «يفيد التعاون مع الناتو في التنسيق العسكري والتدريب، لأنه من الواضح جداً أن دول الخليج العربية قد تضررت من الولايات المتحدة في عهد أوباما، كما إن هناك تحولات كثيرة في المشهد الدولي ارتبطت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومشاركتها في القمة الخليجية الأخيرة التي انعقدت في العاصمة البحرينية المنامة، وكان موقفها واضحاً فيما ستقدمه من حماية لدول الخليج العربي، والتي اختزلتها في عبارتها الشهيرة «أمن الخليج من أمن بريطانيا».

استنزاف للمال وتضييع للطاقات الشبابية

وأضاف «بريطانيا بحاجة للمال عقب خروجها من السوق الأوروبية والدول الخليجية أبدت استعدادها للدفع، غير أن هذا يعد استنزافاً لأموال الخليج عبر العسكرة، وسنجد أنفسنا في أزمة اقتصادية كبرى إذا استمرت السياسات الخليجية على هذا المنوال، بينما لا يلقى التعليم مثلاً اهتماماً حقيقياً من قبل دول الخليج العربية، خصوصاً أن الشعوب الخليجية شابة، ولديها طاقة بشرية جبارة، ويمكن حل كل أزماتنا في المنطقة عبر تطور نظام التعليم، فتعليمنا الخليجي فشل فشلاً ذريعاً، وقد أعلنت كل دولة خليجية في وقت سابق عن تخفيض اعتماد العمالية الأجنبية غير أنها لم تقم بذلك لأن مقومات الاكتفاء بسبب ضعف التعليم لم تتحقق لديها رغم الرغبة الشبابية في البناء والتنمية».

الخليج العربي وإيران

ولأن الحديث حول الحوار الخليجي الإيراني بات متداولاً، ويبدو أن أمراً وشيكاً تحمله الزيارة الرئاسية الإيرانية إلى السلطنة العمانية والكويت، فقد كان لهذا المحور نصيب من حديثنا مع العيسى، الذي قال حوله «إن تداول الحديث حول الحوار الخليجي الإيراني لم يكن وليد اللحظة، فقد كان مطروحاً قبل فترة من قبل عمان والكويت، ومن المهم الالتفات إلى زيارة سمو أمير الكويت إلى الرياض عقب تسليم وزير خارجته رسالة لروحاني حول ضرورة تحسين العلاقات بين الطرفين، ويبدو أن تلك الزيارة تستهدف قراءة الموقف السعودية وحجم ما يمكن طرحه من أبعاد تفاوضية، وإيران بعد الضغط الأمريكي الجديد عليها قد تقبل بالحوار، وهذا سيكون في صالح الطرفين».

وأشار العيسى «أن مشكلة إيران أن لها مصالح متشابكة مع الدول العربية كلها، تحديداً العراق وسوريا، وأنه لا يمكن لإيران أن تتنازل عن العراق وسوريا، أما اليمن فلربما ترك الحل للأمم المتحدة يعد خيار أفضل من فرض الحل السعودي الذي يقوم على تجريدهم من سلاحهم، فهو حل مثالي، أما الحل العقلاني هو العمل على إجراء تسوية سياسية عبر حكومة وطنية تمثل جميع الأطراف بما فيهم الحوثيين لتحل مشاكل اليمن بسلمية وعبر قنوات سياسية، وعلى دول الخليج أن تسهم في تنمية اليمن، فهو ليس بحاجة إلى دين بقدر ما هو بحاجة لتنمية حقيقية».

ألقينا مراسينا..

في أعماق التاريخ الخليجي الوحدوي كان لنا جولة غوص مع «د. شملان العيسى» مصافحين فكره المتقد من تحت المياه الراكدة للمصفقين في كل حين، التقيناه نذيراً لدول الخليج العربية من كثير من الأخطار التي تواجهها، والمعوقات التي تحول دون تنميتها، فإلى هنا.. نصل إلى ضفة آمنة. ولمن لا يعرف «العيسى» عن قرب، فقد كان الأكثر كاريزمية وإثارة للجدل في قاعات المؤتمرات، بلغته الكويتية الشعبية القديمة وفكره الغربي المتحرر شكل مزيجاً فريداً يجبرك على أن تحترمه رغم اختلافك معه في كثير من الآراء. لفتتني إليه -وأنا أصغر المشاركين عمراً في أغلب المؤتمرات التي جمعتني به- ابتسامته الأبوية التي يعززها بقوله «يا بنيتي»، الكلمة التي بدت لي فاصلاً أنيقاً بين كلماته التي أرقب سماعها بشغف؛ بحثاً عن الصوت الآخر «المختلف» على «ضفاف الخليج».