افتتح الأربعاء الماضي في جنيف مؤتمر سياسي كبير نظمه المعهد الأوروبي للسلام، ضم قيادات عراقية سنية، معظمهم من النواب، وبعض المحافظين وأعضاء مجالس المحافظات، والوزراء السابقين والحاليين، المشاركين في العملية السياسية، بعد احتلال العراق، لبحث مستقبل السنة ما بعد الانتهاء من تنظيم «داعش»، وبحث سبل تمويل وإعمار المدن التي دكت تماماً بفعل الإرهاب، والذي طال بناها التحتية من تدمير ممنهج، والترتيبات اللازمة في إنشاء قوات أمنية محلية مدعومة لمسك الأرض، ومناقشة إنشاء الأقاليم الإدارية للمحافظات السنية واستطلاع رأي المجتمع الدولي في إقامتها، وتلك هي الأهداف المعلنة لذلك المؤتمر.

والملفت للنظر في هذا المؤتمر أنه عقد بالتزامن مع تولي الإدارة الأمريكية الجديدة وبقيادة الرئيس دونالد ترامب والذي أجج بجرأته وسياسته الكثير من صناع القرار للخروج من المأزق الذي خلفه الرئيس باراك أوباما وإدارته التي أربكت أمريكا والعالم بأسره.

كذلك الحضور الأمريكي القوي متمثلاً بالجنرال ديفيد بترايوس رئيس المخابرات الأمريكية السابق وأكثر الجنرالات إحاطة بالشأن السني والعراقي، إضافة إلى حضور شخصيات أمريكية وغربية كبيرة!!

وعليه فإن هذا المؤتمر يختلف عن جميع المؤتمرات التي رعاها الغرب منذ الاحتلال، وربما سيتم من خلاله إعداد طبخة أمريكية جديدة للملف العراقي تتماشى مع توجهها في المنطقة.

ويذكرنا هذا المؤتمر بالذي عقد في العاصمة البريطانية لندن عام 2002، والذي أسس للإطاحة بالنظام السابق وترتيب أوراق المعارضين، وكانت دوائر الاستخبارات وعلى رأسهم أمريكا تعد أولئك المعارضين وجلهم من الأحزاب والعمائم الشيعية وكذلك قادة الأكراد مع أفراد من الحزب الإسلامي العراقي لإيهام المجتمع الدولي أنهم يمثلون كل الطيف العراقي، وجميعهم قد تربى في حضن المخابرات الأمريكية وحلفائها، ويسيرون وفق أجندتها، لكنه عند التطبيق العملي أدركت أمريكا متحسرة أنه قد ضاع كل جهدها وأموالها مع دخول النظام الإيراني على الخط الذي حرف سير قادة الشيعة الذين غلبت عليهم النزعة العقائدية على العلمانية والحزبية التي تقمصوها، وخرجت أمريكا والدول الحاضنة لتلك المعارضة بخفي حنين، بعد أن نجحت إيران في تجيير خدماتهم وعمالتهم لصالحها فلم يعد هنالك بصيص أمل فيهم ولا بد من اقتلاعهم.

من هنا تحاول أمريكا اليوم وبحجة مظلومية السنة وبنفس سيناريو مظلومية الشيعة إعادة ترتيب أوراقها في العراق وإزاحة إيران وعملائها. لكن اعتمادها لنفس الوجوه والتي تدعي زوراً أنها تمثل الكيان السني والإصرار على إعادة تدويرهم سيزيد من دوامة العنف ورفض مشروعهم من الشارع السني، حيث إنها ستعمد هذه المرة إلى تشكيل جناح سياسي سني مدعوم بالقوة الأمريكية الخشنة والذي باتت تتضح شيئاً فشيئاً معالمه بازدياد تدفق القوات الأمريكية العائدة إلى العراق، وتمركزها في قواعدها التي سبق أن أعدتها للتهيؤ لمواجهة وتحجيم الدور الإيراني، ثم وصولاً إلى إزاحة الجناح الشيعي الحاكم وميليشياته والمجيء بجناح شيعي متوافق مع المشروع الأمريكي الجديد، وذلك بعد الانتهاء من أمر جماعة «داعش» التي تكون قد أدت أهدافها على وجه الدقة في تصفية الخصوم من أهل السنة، وكذلك أنهكت جيش العبادي وميليشيات إيران، ثم التحرك تزامناً مع تلك المعارك بالإعداد لتطويق تلك الميليشيات ووضعها على قائمة الإرهاب وملاحقة قادتها وتصفيتهم.

والإغراء الذي أعدته للمكون السني وقادته مقابل التوافق مع مشروعهم وتسهيل مهمتهم هو إعمار مدنهم المدمرة والتعجيل في إقامة أقاليمهم وربما تكون هي أيضاً خدعة أخرى كما نكثوا بوعودهم بجعل العراق مثالاً يقتدى به عند احتلاله!!

فأهل السنة اليوم أمام خيارين أحلاهما مر!

فإما القبول بالمشروع الأمريكي المحدث والوقوف خلف عملائه من قادة السنة وإعادة دعمهم وغض الطرف عن إجرامهم وفسادهم علهم يزيحون عنهم الكابوس الإيراني ويرضون بهم مرغمين وبالمحتل الأمريكي ولا يعيدون الكرة أبداً بالمجابهة والمقاومة ولا يفكرون حتى بتسميته محتلاً، بعد أن ذاقوا ذرعاً ممن هو ألعن من الأمريكي، أو مقاطعة مخرجات ذلك المؤتمر وعدم تجديد الثقة لكل قادة السنة الذين أضروا بالقضية السنية وتاجروا بها، ولم يقدموا طيلة أربعة عشر عاماً لهم سوى الخراب والدمار، ولم يعد هنالك شيء يخشون من فقدانه فهم اليوم على البلاط!!