إن من يتابع تحركات جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة على الساحة الدولية يلمس ثلاثة أمور، أولها سرعة التحرك وفقاً لمقتضيات الموقف، وثانيها، أنه يضع نصب عينيه دائماً المصلحة الوطنية للبحرين ودول مجلس التعاون والامة العربية، وثالثاً، توقيت التحرك الذي يأتي في لحظة مهمة تستدعي الإقدام بلا تردد، وهكذا يأتي الملك حمد بن عيسى آل خليفة دائماً في مقدمة الصفوف. والنشاط الدبلوماسي للملك حمد بن عيسى هو نشاط دائب وكثير لذا أقتصر فقط على الإشارة لزيارات جلالته لمصر في السنوات الأخيرة التي اتسمت بالاضطراب في أوضاع كثير من الدول العربية ومن بينها مصر في إطار ما يعرف باسم «الربيع العربي»، الذي تحول إلى خريف ولم يثبت أنه ثورة حقيقية بدوافع ومبادرات داخلية.

وقد أدرك الملك حمد بن عيسى بثاقب بصيرته أهمية التغيير واستبقه بمبادرته وبرنامجه الإصلاحي الذي أطلقه إثر توليه الحكم عقب انتقال المغفور له والده، طيب الله ثراه، إلى رحاب الله. وكان كتابه «الضوء الأول» هو الدليل على الرؤية الاستشرافية التي ترى أن التغيير الحقيقي لابد أن ينبع من داخل الوطن وخاصة من القيادة السياسية، ولذا جاء مشروعه الإصلاحي قبل أكثر من عقد من الزمان. ولما اندلعت الأحداث بمصر في يناير وفبراير 2011، وفي ضوء إدراك جلالته خطورة انهيار مصر، بادر بزيارتها أكثر من مرة وخاصة عقب ثورة 30 يونيو 2013، وتولي الرئيس عبد الفتاح السيسي لمنصبه، وغير ذلك في مناسبات كثيرة، كان يحرص على زيارتها كلما لمس أن زيارته ضرورية لكلا الدولتين وللحفاظ على الكيان العربي الرائد.

إن هذه التحركات لجلالته تجاه مصر جاءت انطلاقاً من إيمانه بدورها من أجل العروبة، لأنه يعرف أن مصر لم ولن تقصر في مواقفها البناءة دفاعاً عن أرض العروبة وبخاصة منطقة الخليج العربي وعلى الأخص البحرين، منذ وأثناء العمل من أجل استقلال الدولة وثبت ذلك بمواقف عبد الناصر ومبارك ضد تهديد العراق وغزوها للكويت. كما ثبت ذلك في مواقف مصر تجاه احتلال إيران لجزر الإمارات العربية المتحدة الثلاثة بتواطؤ مع القوى الأجنبية عندما لاحت بوادر استقلال دول الخليج، وكانت مصر سباقة في الاعتراف باستقلال دول الخليج وإقامة العلاقات الدبلوماسية معها لتأكيد سيادتها ولكي تكون قدوة للدول الأخرى للمبادرة بالاعتراف بهذه الدول العربية الأصيلة ولدعم هذا الاستقلال.

وعودة لزيارات جلالة الملك حمد لمصر نجدها تأتي في لحظات فارقة مثل دعم الخطة الاقتصادية في مؤتمر دعا إليه المغفور له بإذن الله الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، وزيارة في افتتاح قناة السويس الجديدة، التي هي رمز للفكر والمبادرة لتطوير الاقتصاد المصري من منظور مستقبلي.

وفي هذه المرحلة التاريخية الخطيرة التي تتعرض لها المنطقة من تدخلات من القوى المجاورة وفي مقدمتها إيران، ومن القوى العالمية ومن الجماعات الإرهابية التي تغذيها قوى إقليمية وعالمية، وفي ظل انعقاد القمة العربية الثامنة والعشرين بالمملكة الأردنية الهاشمية التي يمكن أن نطلق عليها قمة لمِّ الشمل العربي، لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية. ولذا فإن زيارة جلالته لمصر ومباحثاته مع الرئيس عبد الفتاح السيسي تحمل مغزى وأهمية خاصة، فالقضايا العربية في مفترق طرق وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، وخاصة قضية القدس، فضلاً عن التدمير الذي لحق بدول عربية مهمة مثل سوريا التي حمل مفكروها وسياسيوها أول شعلة لمفهوم العروبة في العصر الحديث حتى جاءت مصر عبدالناصر لتحمل الراية بقوة خطوات عدة للأمام وحولتها من دعوة للمثقفين والنخب إلى دعوة جماهيرية يعيشها كل عربي في بيته وعمله.

هكذا كانت رؤية القيادات الواعية أن تحافظ ما استطاعت على سيادة الدول الرائدة لأنها قيمة حقيقية ذات دور نابع من بيئة المجتمع وثقافته وتاريخه وقدراته البشرية والعسكرية الحقيقية، وليست مجرد نزعة طارئة أو حلم ليلة صيف من هذه الدولة أو تلك سرعان ما تتبخر.

إن لمَّ الشمل العربي في القمة العربية الثامنة والعشرين يعد مسؤولية كل مواطن عربي وكل مفكر عربي وكل قائد عربي، ولكن هناك نجوم زاهرة تتألق في سماء العروبة وهم جميع قادة الدول العربية، وخاصة الرائدة وعلى الأخص مجلس التعاون الخليجي، ولهذا سيسجل التاريخ هذه الزيارة الأخيرة لجلالة الملك حمد لمصر ودوره الهادئ في لمِّ الشمل وإزالة ما علق من شوائب في العلاقات العربية، ومن ثم إعادة الوئام العربي بين جميع القادة ونصحهم بعدم تبديد الوقت وإثارة الشكوك لأسباب واهية.

فتحية لملك الرؤية الصائبة والعمل الجاد والمبادرات التي تأتي في وقتها.

* كاتب مصري