فاطمة عبدالله خليل:

من الإجحاف أن يرتبط اسمه بصفة "نخبة ثقافية أو سياسية"، فرجل من طرازه، استثنائي بكافة المقاييس، ما يجعل اللقاء معه مشوقاً وماتعاً فوق العادة؛ فهو الرجل الذي قاد مفاوضات "مؤتمر المعارضة السورية"، ناهيك عن أنه رئيس مركز الخليج للأبحاث الذي توسع نشاطه منذ تأسيسه من موقعه الرئيس في دبي، "ليصبح منظمة عالمية تحتوي على شبكة قوية حول العالم من شركاء ومكاتب للتعاون في كل من منطقة الخليج العربي وأوروبا، إلى جانب مؤسسة مركز الخليج للأبحاث (GRCF) التي تم افتتاحها في جنيف، ومركز الخليج للأبحاث المفتتح في كامبرديج (GRCC) ويدير مركز الخليج للأبحاث مكاتبه الإقليمية من مدينة جدةالسعودية"، وعندما يصعب علينا اختزال إنجازات هذا الرجل والاكتفاء بما أوردناه على عجالة، فإننا بلا شك في حضرة مدرسة فكرية وثورة معرفية قومية كما أسلفنا، ورغم غناه عن تعريفنا، إلا أن من دواعي سرور "الوطن" أن يكون ضيفها لهذا العدد د.عبدالعزيز بن صقر.

هل تصنع مراكز الأبحاث القرار السياسي الخليجي؟


وكرئيس مركز أبحاث فإن أول ما وقفت عليه "الوطن" في هذا اللقاء، دور مراكز الأبحاث في الخليج العربي عموماً، ومركز الخليج للأبحاث بصفة خاصة في صنع القرار السياسي، وحول ما إذا تحظى تلك المراكز باهتمام صانع القرار السياسي الخليجي على سبيل الاستشارة، وأفادنا بن صقر الذي عودنا على موضوعية الطرح بقوله "في البداية يجب توضيح حقيقة مهمة وهي أن مراكز الأبحاث ليست صانعة قرار، ودورها يقتصر على تقديم الدراسات والأبحاث والاستشارات في حال تم الطلب منها، سواء كانذلك في النواحي السياسية، أو الاقتصادية، أو الأمنية، أو غيرها من الشؤون المهمة التي تتطلب دراسات، كون مراكز الأبحاث قادرة على تنفيذ ذلك بما لديها من كوادر بحثية محترفة، ورؤية استشرافية علمية قائمة على البحث العلمي الدقيق، القائم على تجارب ومعطيات واستنتاجات، وكذلك بما لها من شراكات وانفتاح على المراكز العالمية، وبما لديها كذلك من مخزون بحثي تراكمي، فضلاً عما تتسم به هذه المراكز من موضوعية وحياد في تقديم الدراسات أو الاستشارات، خاصة المراكز المستقلة، وكذلك المرونة التي تتحلي بها مراكز الأبحاث باعتبارها لا تخضع للبيروقراطية الحكومية".

وأردف بن صقر "في النهاية تضع مراكز الأبحاث نتيجة الدراسات والاستشارات أمام صانع القرار ليتخذ ما يراه مناسباً، ويترك ما لا يراه مناسباً طبقاً لرؤيته والظروف المحيطة باتخاذ القرار"، مضيفاً بقوله "وعليه يمكن القول إن مراكز الأبحاث غير صانعة للقرار في أي دولة، بل من الأدق القول إنها تساعد على اتخاذ القرار، وتضع لصانعه الصورة كاملة بما فيها ما يترتب على اتخاذ القرار من إيجابيات أو سلبيات".

جدوى مراكز الأبحاث الخليجية

وقد كانت إجابته على السؤال الأول مستفيضة ومشجعة جداً، ما دعا للبحث عن نظرة فاحصة لواقع مراكز الأبحاث الخليجية من حيث الإمكانيات المتوفرة، وكفاءة هذه المراكز، وجدوى وجودها في رؤية د.عبدالعزيز بن صقر، ورغم ما تعانيه دول الخليج العربي من أزمة مالية مشهودة، إلا أن هناك ثمة استثناءات لا بد منها دائماً، ولعل هذا ما وافقنا عليه الرأي من خلال إجابته بأن الإمكانيات المادية للمراكز البحثية هي المحك الرئيس، وهي جوهر توجه هذه المراكز وإنتاجها وما تقدمه، ثم أردف "دعونا نقول إن المراكز البحثية يمكن تصنيفها إلى نوعين من حيث التمويل وهما: مراكز تابعة للدول والحكومات، وغالباً ما تكون في الجامعات أو الجهات الحكومية التابعة للدولة، وهذ النوع من المراكز لا يعاني من أزمة في التمويل، وإن كان أكثر هذا النوع من المراكز متخصصاً في البحث الأكاديمي أو البحث المرتبط بمصالح الجهة الممولة. والنوع الثاني هو المراكز المستقلة، وتكون ذات قدرات بحثية متعددة، تهتم بالشؤون العامة والقضايا الاستراتيجية المهمة، وهي أكثر انفتاحاً وتنوعاً في الإنتاج، وتفضل بعض هذه المراكز الاستقلال المادي بما يمكنها من البحث بموضوعية، والقائم على الحياد التام، لما فيه مصلحة البحث، وأن تكون المخرجات موضوعية، حتى لا تتأثر بالجهات المانحة، وهذا هو نهج مركز الخليج للأبحاث الذي اختط لنفسه خط الاستقلال والموضوعية والحياد؛ لخدمة قضايا منطقة الخليج برمتها".

واستطرد بن صقر "يعتقد المركز أن هذا التوجه في مصلحته، وفي مصلحة دول المنطقة، فهو يبحث دوماً عما يخدم دول الخليج، ويحدد التحديات والمهددات وكيف يمكن مواجهتها بموضوعية طبقاً للمتاح وعلى ضوء الواقع، ومن ثم تحقيق نتائج قائمة على معطيات وفرضيات مستقلة، الأمر الذي يجعل مخرجات مركز الخليج للأبحاث صائبة، والدليل على ذلك أن هناك مطبوعات ودراسات بحثية حول قضايا المنطقة سبق وأن طرحها المركز منذ بداية الألفية الثالثة، وتأكدت أهميتها في الوقت الحاضر، بعد بروز ما يسمى بأحداث الربيع العربي، وهذه الدراسات موجودة لدى المركز ويمكن العودة إليها لمن يرغب".

وأضاف "أن مركز الخليج للأبحاث -بحكم استقلاليته- ترجم وطبع العديد من أمهات الكتب والمراجع والقواميس المهمة في شتى المجالات؛ لقناعة المركز بهذه الكتب، وانطلاقاً من شعاره "المعرفة للجميع"، وهو عندما يفعل ذلك، إنما يترجم رؤيته التي وضعها قبل ظهوره، والتي تقوم على كون مركز الخليج للأبحاث مؤسسة بحثية غير ربحية".

أما عن كفاءة مراكز الأبحاث في دول الخليج وجدواها، فهو يرى أن "أعداد هذه المراكز مازالت قليلة مقارنة بأهمية القضايا التي تواجه دول مجلس التعاون، وكذلك مقارنة بإمكانيات المنطقة، وانطلاقاً من أهمية مراكز الأبحاث في خدمة مصالح الدول ودورها في توفير المعلومات لصانع القرار. لكن يظل عدد مراكز الأبحاث قليلاً جداً في دول مجلس التعاون الخليجي مقارنة بدول الجوار في الشرق الأوسط مثل تركيا وإيران وإسرائيل.!!".

وحول كفاءة المراكز الخليجية وجدواها فقد أشار بن صقر إلى "تصنيف سنوي تصدره جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة، يشمل تقييماً شاملاً لعدد كبير جداً من مراكز الأبحاث حول العالم، والحمد لله يحتفظ مركز الخليج للأبحاث بترتيبه منذ فترة طويلة، غير أن من يرغب في معرفة تصنيف مراكز الأبحاث الخليجية، عليه العودة للتصنيف الدولي لهذه المراكز".

الشباب في مراكز تجمع العقول

وانطلاقاً من أن مراكز الأبحاث مراكز لتجميع العقول، وقفنا مع بن صقر على الكيفية التي يتم من خلالها صناعة أجيال جديدة من الباحثين، بعد ملاحظة أن أغلب الباحثين في الخليج العربي من ذوي الخبرات الطويلة والأعمارالمتقدمة نسبياً، في محاولة لإيجاد دور الشباب في البحث العلمي وإعدادهم له، وقد وازن بن صقر بين الأمرين بقوله "من الطبيعي أن تكون الخبرات مهمة في مراكز الأبحاث، ولكن الخبرات ليست مرتبطة بالمرحلة العمرية فقط، لأن العملية البحثية تعتمد على أجيال مختلفة ومدارس بحثية متنوعة وفق آليات معروفة، وأيضاً هي مرتبطة باهتمام كل مركز وتخصصه وتوجهاته"، وأضاف "في الغالب تنتقل الخبرات من جيل إلى جيل كون العمل البحثي عملاً تراكمياً وتشاركياً بين باحثين من مختلف الأعمار، أما عملية اختيار باحثين جدد، فهي مرتبطة بعدة اعتبارات منها الاستعداد الشخصي للباحث، واهتمامه ورغبته، وقدرة الجامعات على الدفع بخريجين مؤهلين للعمل البحثي، وكذلك دعم الدولة لانخراط الشباب في المجال البحثي". وفي هذا السياق شدد على أن "عملية صناعة الباحثين إنما هي عملية متكاملة بين الجامعة، والباحث، واهتمام الدولة والقطاع الخاص، معاً".

وألقينا مراسينا..

لكننا لم نقرر الاستقرار في ضفة ما بعد، إنما هي استراحة محارب على ضفاف "جدة" الساحرة؛ فحديث شيق وثري كهذا، لا يمكن له أن ينتهي بتسطير صفحة واحدة، أو الاكتفاء بثلاث قضايا مركزية حول المراكز الخليجية للبحث العلمي. وكم كان د.عبدالعزيز بن صقر -الذي أكن له احتراماً خاصاً ومكانة علية في نفسي- سخياً معنا بوقته وجهده وعلمه، متجاوباً بترحاب تورد له الوجنتين خجلاً، ما يجعلنا نبحر معه في إبهار ذهني آمنين، لا ننشد معه ضفة آمنة، بعد أن أمننا بعلمه وتشويقه بينما يشق خباب ماء الخليج حيزوم مركبنا. فإلى لقاء متجدد مع الدكتور عبدالعزيز بن صقر.