صديق من الطائفة الشيعية وهو طبيب معروف ولطالما تبادلنا الحوار حول كيفية تجاوز ما حدث، عقب على مقالات الأسبوع الماضي التي دارت حول سؤال «إلى متى تربية النشء والأجيال وغرس العداء للدولة والخصومة معها عند شريحة من الطائفة الشيعية تربية تجعل من تلك الأجيال فريسة سهلة للتجنيد؟ قائلاً إنه يخشى أن يفهم من مقالاتي أن كل الطائفة الشيعية تربي أبناءها على الخصومة مع الدولة أي أنه يخشى «التعميم».

الصديق العزيز يبدو أنه متفق معي على أن المشكلة موجودة، أي أنه متفق معي على أن هناك أسراً شيعية تغرس في عقلية وذهنية أطفالهم في المنزل العداء للدولة وتقوم بالإسقاطات التاريخية في التربية الدينية على من هو يزيد عصره، وأن تلك التربية هي واحدة من أهم أسباب تكرار موجات اكتشاف الخلايا على مدار السنوات السابقة، إنما همه من التعقيب على الملف ألا «نعمم» على الجميع.

عزيزي دكتور...

المحرك به خلل، المحرك التفاعلي الذي يدفعك للتفاعل معي هو ذاته عند نخبة من مثقفي الشيعة وهو النجاة من التهمة.

المحرك الوحيد الذي حفز مثل هذا الصديق ليتفاعل مع المقالات هو «النجاة» من التعميم، في حين أن التعميم لم ولن يكون الهدف من المقالات منذ خطت يدنا الكتابة إلى اليوم، إنما كان الأجدى والأهم أن تكون الكارثة التي حلت على جل الطائفة الشيعية في البحرين من بعد أحداث الربيع العربي في دول الخليج هي المحرك الأساسي للتفاعل مع المقالات خاصة وأن الاتفاق مع أسبابها يبدو جلياً في الرد، وإلا ما طلب الأخ العزيز عدم تعميمها، هو يقر إذاً أنها موجودة، ويقر أنها أحد أهم أسباب هذه النوبات المتكررة من العنف، ويقر بأن مفهوم «الدولة العدلية» عند شريحة كبيرة يتجاوز عدالة الدولة ويمتد إلى «قداسة الدولة» و«ديانة الدولة» و«مذهب الدولة»، بمعنى لو أن الدولة الواقعية الموجودة أضاءت أصابعها العشر حقاً وعدالة لما أغنت عن الدولة التي يقوم عليها فقيه ديني!!

إذاً هي أزمة تعشعش داخل العقلية حتى تلك التي تعيش في كنف الدول الأوروبية الديمقراطية، فلم يغنها نعيم الحقوق والحريات الذي تتمتع به عن مناصبتها العداء، تماماً كما هو حال العديد من رافعي شعارات «معكم معكم يا علماء» عندنا أي النسخة الشيعية من قرابين «الدولة الإسلامية» السنية، إنها مأساة.. وقربة مفتوحة.. وحفرة من نار كلما ألقي فيها -من شبابنا- حطب قالت هل من مزيد.

هكذا سنكتشف في القريب العاجل خلية جديدة تم تجنيدها أثناء الزيارات والمناسبات الدينية من خيرة شبابنا ومن «مثقفيهم المتدينين».

لن يكون هناك منجاة من هذه السلسلة طالما نخب الطائفة ومثقفوها ومتعلموها والمقرون منهم بأن تلك الأزمة موجودة، لا يتفاعلون ولا يتحركون إلا للهمس سراً للنجاة من تعميمها!! لا يتفاعلون إلا للتنبيه بأن هناك أسراً لا تتفق مع هذه المفاهيم ولا تربي أبناءها على تلك القيم.. أهذا هو جل اهتمامكم؟

ثم إن الاعتقاد بأن الإعلام هو من يعمم، اعتقاد خاطئ جداً، فالإعلام متهم عند من يعمم بأنه يسوف الأمور، وعلى فكرة من يعمم ليسوا «دواعش» ذلك الوصف الذي يروج الآن بنسق «ببغاوي» يردد المصطلح ويكرره ليقنع نفسه قبل أن يقنع الآخرين به، ظناً أن التكرار يثبت الكذب، أن من يعمم على الطائفة الشيعية هم دواعش، وأن كل سني يحتج على العداء على الدولة هو داعشي!

من يعمم اليوم هم العوام البسطاء الذين يلعنون داعش سراً وعلانية والذين لا يقرؤون الصحف ولا يثقون في الإعلام أصلاً، هؤلاء هم الغالبية التي أصبح بينها وبين الطائفة الشيعية حجاب.

الخشية فقط من تهمة التعميم عليها أن تكون آخر اهتمام للنخب والمثقفين والأكاديميين والمتعلمين، لأنها ستطالهم ستطالهم ليس بسبب الإعلام إنما بسبب صمتهم وسكوتهم وهمسهم للأصدقاء فقط وفي الغرف المغلقة، بأن لدينا خللاً.

التعميم سيطالهم لا بحرينياً فقط بل خليجياً أيضاً، ونحن لا نكرس ولا نحث ولا نحرض على الطائفية حين نفتح هذا الملف، بل نحن نبحث معكم عن مخرج، نحن نحذر وننبه خشية على مستقبل الأجيال القادمة.

تخلصوا من ثوب المظلومية في العقلية الجمعية، وأبدؤوا اليوم الحفر داخل النفوس بحثاً عن مخرج طويل الأمد، مخرج يتجاوز المرحلة الحالية ويتجاوز حلقة «المعارضة والسلطة» والجلوس معاً والقواسم المشتركة ووو، فتلك حلقة تجاوزتها المرحلة، الحفر في النفوس من أجل البحث عن الأسباب الذاتية التي تولد حوائط العزل بين الطائفة والدولة، هو المخرج الذي يعالج المرض من جذره ويستأصل ورم العزل والفصل وعدم الانخراط والاندماج، وذلك الحفر لا يعد تطبيلاً ولا نفاقاً لأحد إنما منجاة للأجيال القادمة ورأفة بهم.

حين يكون الصلح مع الذات ومع مفهوم الدولة العصرية وتقبل الدساتير مرجعاً للخلافات هو مسطرتنا التي نحتكم لها، لا العلماء مرجعاً، ويكون ذلك الجدل علنياً وصريحاً وبصوت مسموع وتشارك به الأغلبية بأريحية البحث عن المخارج طويلة المدى، فحينها فقط نستطيع أن نسمي الأشياء بمسمياتها، وحينها لن يستطيع إعلام الدنيا كلها أن يعمم حتى لو أراد.