تناول رئيس مجلس إدارة النادي السوداني بالمملكة، المستشار القانوني بديوان الرقابة المالية والإدارية حمزة محمد نور الزبير، في إصداره الجديد "ذكرياتي: من أوراق قاضٍ سابق" والذي يقع في 354 صفحة مسيرة العمل القضائي في السودان.

وتطرق المؤلف، إلى ما يزخر به السودان من مخزون ثقافي وتراثي وأدبي في كافة مجالات الحياة حقيق بالقارئ أن يلم بها، والكتاب برغم أنه يتحدث عن مسيرة قاض في مجال القضاء لعقود من الزمان إلا أنه مكتنز بالأدب وفن الحكي الذي برع فيه المؤلف، كما هو غني بالتطرق لما هو ثقافي وفني وابداعي في مجالات عديدة تعكس تراث وتقاليد أهل السودان.

واهتم الكاتب أيضا بمحنة الضعفاء من عناصر المجتمع، الهائمين تحت الشمس (الشمّاسة). وظهر ذلك جليا في تناول قضية (الكشة) أو (الكشات) وهي الحملات التي تشنها الشرطة لاخلاء العاصمة السودانية من (المشردين) الجائلين بلا مأوى، وهو بلا شك اهتمام نبيل بفئة تعاني من فقدان السند الحامي والحضن الحاني.


واقتبس الكاتب مدخلاً لمحطته الحادية عشرة تضمنت: "نسافر مع السنين من دون أمتعة أو خطط، أو مواعيد للإقلاع أو الهبوط، ومن دون الحاجة إلى مسكن لأننا حينها نسكن أحداق من يستمعون إلينا، ثم لا نخشى أن نهوي مع دمعاتهم لأنها ستعود إلى الأرض، منبع كل الحكايات الصادقة".

وشملت مختارات من التراث الكردفاني، كلماتٍ للكاتب ياسر حرب في كتابه "اخلع حذاءك"، وكان اقتباسا موفقا لهذه المحطة الثقافية المجتمعية الموحية، وإن كان التنوع في مواضيعها ضم، مع مذارف الدموع، مباعث الاندهاش، وابتسامات الفرح والتطريب.

العرض:

ويقع الكتاب في 354 صفحة، شاملة ثبت المراجع والوثائق، وبعضها مصوّرة ضمن طيات الكتاب، وتتوزع مواضيعه في إحدى عشرة محطة، تسعٌ منها تحكي تسلسلا تاريخيا مضطردا للمراحل العملية والحياتية للكاتب، وإثنتان (العاشرة والحادية عشر) خصص أولاهما لمختارات من تجربته في العمل القضائي، والثانية لما انتقاه للقارئ من التراث الشعبي لإقليم كردفان في وسط السودان.

يقدم الكاتب، بصورة جاذبة ودقيقة، نتاجا طبيعيا لتفاعله الأكاديمي المجتمعي، كدارس للعلوم القانونية والأنثروبولوجيا مدخلا لدراسة القانون، كما كان الحال في جامعة الخرطوم بالنسبة لطلاب القانون، دخولاً لها عبر كلية الآداب، ثم صاروا يبدءون بالقانون ولكن مع دراسة مدخل لعلوم الاقتصاد من السنة الأولى، إعتبارا من العام 1976.

ومع أن المهنة القانونية استحوذت على القسط الأعظم من عصارة ذاكرة الكاتب، إلا أن البعد الاجتماعي والثقافي كان لهما من قلبه الشغاف والسويداء، لا يفتأ يحدث القارئ عن تنظيم العدالة وتصريفها وإنشاء المحاكم وإدارتها إلا ويلج معه، لا سيما نحو نهايات الكتاب، في عوالم الإنسان في بوادي السودان وبلداته، مقاضاةً وأنساً وشعرا وترانيم وأهازيج وكسبا للعيش، مما يدخل في طبيعة التركيبة المجتمعية زاهية الألوان لانسان السودان في وسط البلاد وجنوبها حيث اشتغل الكاتب بالقضاء وخالط الناس وأحبهم وأحبوه.

لهذا لم يكن غريبا أن تمس هذه الذكريات أيضا منعطفات السياسة، التي حرص الكاتب في أكثر من موضع على الهرب منها،بما في ذلك عرضاً ناكثاً لتوظيف وزاري في الجنوب، وهو الأمر المطلوب للمشتغلين بالقضاء الواقف والجالس.

كما اشتملت الذكريات على منعرجات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية جميعا، وهو أمر يقتضيه فسيفساءُ بلدٍ مترامي الأطراف متعدد الاثنيات والأعراق مثل السودان. ولا يعني هذا غياب الموقف السياسي أو الفكري من مجريات الأحداث، فقد عبر الكاتب عن ذلك تعبيرا واضحا، كما جاء – على سبيل المثال - في تناولهلسياسات تطبيق الشريعة الإسلامية وإدارة محاكمها وتصريف العدالة في أيامها الأولى، وكما جاء في تحليله وعرضه لظروف اتفاقية أديس أبابا لسنة 1972 التي كانت وليدة عندما بدأ مسيرة حياته القضائية، وشهد خروقاتها بتقسيم الجنوب من جهة وتعيين قيادته مركزيا من جهة أخرى.

ومعلوم أن بلدا مثل السودان يصعب لمكوّناته أن يحيطها أي قلم إحاطة كاملة، بالإضافة إلى المحددات المنهجية التي تحكم كتابا عن الذكريات، من حيث الالتزام بالاقتراب من سيرة الكاتب ومحيطه العملي والمعاشي، وشئ من تفاعلاته مع البيئة المجتمعية حوله. ومع هذا تمكن الكاتب من تقديم عينات من هذه المكونات قوية ومعبرة تشي للقارئ بصورة كلية وجامعة للمجتمع السوداني في مختلف عوالمه وآلامه و آماله.

هيأت نشأةُ الكاتب وتداخل أعراقه بين الشمال (والده) والجنوب (والدته) بيئةً نفسيةً معتدلة، بعيدة عن التطرف والغلوّ في الانفعال، وليس غريبا في كتب المذكرات أن يتيسر للقارئ المتمعن رصد مثل هذا البعد النفسي لكاتبها.

فهاهو كاتب هذه الذكريات - مثلا - يلقى سوء المعاملة من رئيس القضاء، مع الملاحقة المستمرة ورد الطلب تلو الطلب رفضا وتعسفاً، فلا يجد ذلك منه إلا الصبر والاحتساب، بل إنه عرض لنا ما حدث باسلوب لا يخلو من روح الطرافة، عندما وافق ضمنا على تشبيه صديقه لمحنته تلك بما يعرف بـ "إنهاك العدو والضرب تحت الحزام"، على طريقة فن الكاراتيه، ثم المضي بخطوات ثابتة نحو الغايات التي ارتسمت في ما تبقى من سنوات حياته إلى حين تدوين هذه الذكريات.

ومرة أخرى يختلف الكاتب في الرأي والتوجه مع قاض آخر فيما يتعلق ببعض الشؤون الإدارية في القضاء، وبما يمس مسؤوليات وظيفته، فيتناول ذلك بخطوات وكلمات تنأى عن الاسفاف والفجور في الخصومة، بل ويستبدل التوصية بالخير لغريمه على الشماتة حينما واتته ظروفها ودنت منه قطوفها.

ويضاف إلى ما تقدم نهجُ الكاتب في سرد بعض أخطائه في الممارسة وهو يخطو خطواته الأولى في سلم القضاء، وقد اشتمل المثالان اللذان سردهما الكاتب على حالتين كلتاهما نتيجة الحماسة لتحقيق العدالة، مما أدى إلى عبور الخطوط الحمراء للصلاحية والسلطات الممنوحة للقاضي الشاب آنذاك، مما يحدو بنا استبدال (غلطة العادل) بما سماه الكاتب (غلطة الشاطر).

ولا شك أن انتهاج الموضوعية الصارمة هو الذي جلب على القانون عبارة (القانون حمار) إذ لا يجد صاحب الحماسة الفطرية تجاه العدالة ما يمكنه من ممارستها أحيانا بسبب القواعد التي تنظم السلطات والإجراءات، مما يورث الشعور لدى ناشئة المهنة بفوات العدالة (وفق المعيار الشخصي) على المدى القصير، بينما توفر تلك القواعد العدالة (وفق المعيار الموضوعي) على المدى الطويل.

وثمة بعد شخصي عابر في هذا العرض. فعندما تناول كاتب هذه السطور كتاب "ذكرياتي" للمستشار حمزة محمد نور، لم يكن يتصور أن يلتقي الكاتب في أكثر من موضع لقاءً غير مباشر، حتى قلتُ له في رسالة نصية أن قراءة الكتاب جعلتني أتوهم أنني في ذات الدفعة الدراسية والعملية، برغم فارق السنوات.

من هذه الملتقيات، على سبيل المثال، ما سرده رحلته لاستلام عمله في كردفان بعد أن نقل إليها نقلا تعسفيا، وأنه استقل طائرة صغيرة لشركة (تروبيكال) الخاصة، وكانت بقيادة الكابتن التجاني مهيد بانقا (رحمه الله)، ويتمثل اللقاء في أن الأخ الكابتن التجاني جمعتني به مصاهرة، بعد أن تزوج ابنة خالتي (شقيقة الوالدة)، والطائرة التي استقلها الكاتب تصادف أن ساهم كاتب هذه السطور في تسجيل شركتها والتصميم الفني لشعارها، وغير ذلك من ترتيبات نشأة الشركة، ثم صاحبت مديرها التجاني في رحلة إلى مدينة نيالا التي منها كتبت أولى مقالاتي لمجلة (سوداناو) وهي في مراحل تأسيسها الأولى في سبعينيات القرن الماضي.

والملتقى الثاني، والذي ورد في سياق تعسف رئيس القضاء مع الكاتب، كان مع "تجاني" آخر، هو عضو مجلس قيادة الثورة العميد (آنذاك) التجاني آدم الطاهر، ابن عمي الذي ألتقي معه في جدنا الملك عبيدة، وإن قابلته – بسبب الاغتراب عن البلاد - لأول مرة في مطار الخرطوم حينما جاء لاستقبال وفد التفاوض حول السلام القادم من نيروبي في ديسمبر 1989م وكنت ضمن القادمين. وقد سجل الكاتب أن التجاني بحكم إشرافه على الهيئة القضائية يسر إصدار القرار الجمهوري في 4 ديسمبر 1989م بالموافقة على استقالة الكاتب من القضائية.

والملتقى الثالث بدأ بملاحظة صورة د.جون بروس، الذي درست على يديه قانون الأراضي بما في ذلك الأعراف المتبعة في فض المنازعات حول الأراضي في نهر النيل والنيل الأبيض ومقارنة اختلافات الأعراف بين المنطقتين، وقد عمل الكاتب مع الدكتور جون بروس في مجال جمع الأعراف المتعلقة بالقوانين بتمويل من مؤسسة فورد والتعاون مع جامعة الخرطوم. وكان البروفيسور جسوالد سلاكيوز الذي درّسنا القانون الدستوري الانجليزي والأمريكي بالسنة الدراسية الأولى عام 1976م يعمل ضمن ذات المشروع البحثي ويتبرع بالتدريس في الجامعة.

وأضافت هذه الملتقيات لكاتب هذه السطور تشويقا إضافيا، على ما بالكتاب أصلا من تنوع يثير الفضول والاهتمام، في بلد يمكن لأي من مواطنيه أن يسافر خلاله سائحاً ولا يسأم السفر، لأنه برغم علمه ببلده سيكتشف في كل حين أنه لم يُحِط علما بكل أنحاء السودان من حيث الجغرافيا الممتدة وطبيعة الإنسان وطريقة الحياة واساليب التعامل والظروف المعاشية وغيرها مما تتمتع به بلاد السودان المترامية الأطراف.

نعود بعد هذه (التخريمة) لنطّوّف مع الكاتب في ذكرياته، التي أخذت أيضاً طابعا طريفا، إذ ينتقي لنا الكاتب مما حوله من أحداث وشخوص أكثرهم جاذبية وطرافة، حتى يصل القارئ إلى قناعة أن سنوات السبعينيات والثمانينيات التي غطت معظم أحداث الكتاب كانت مليئة بالغرابة والطرافة، سواء كان من بعض المتقاضين، أو سكان البلدات والقرى التي عمل بها الكاتب في القضاء، أو من كانوا حوله حيث نشأ وترعرع خلال السنوات الأولى، أو مع بداية العمل القضائي عام 1973م والتي تصادف أن تكون في مسقط رأسه بمدينة الرنك في جنوب السودان.

يعرض لنا الكتاب بعدا مهما من أبعاد التنمية في السودان، يتعلق بما تعانيه المناطق النائية عن المركز من فقر في مقومات المؤسسية لدواوين الحكومة، تركيزا على تجهيزات إدارة القضاء من توفير المحاكم وإيوائها وشغلها بالقضاة بما يكفي لتلبية حاجة المواطنين لفصل منازعاتهم المدنية والبت في قضاياهم الجنائية. وكان من أبرز ما صوره لنا الكاتب بما يلخص الأحوال خلال تلك الفترة وضعية (القاضي الشامل) الذي يقوم مقام الإدعاء الجنائي والدفاع والقاضي الفيصل الذي يقبل البينات ويوازن بينها وينطق بالحكم، كل ذلك بسبب النقص في عدد القضاة بالدرجات المناسبة للقضايا المختلفة، وبسبب غياب أو فقر الخدمات اللوجستية المناسبة لانتقال القضاة بين المدن والقرى لا سيما خلال أيام الخريف الممطرة. فالتخلف التنموي لا يكون في مجال الصحة ومجال التعليم وغيرهما من الخدمات الجوهرية فحسب، بل يؤثر تأثيرا بليغا في مجال إدارة العدالة أيضا، خاصة إذا تبين أن وضعية (القاضي الشامل) تضعف توفر الموضوعية المؤسسية ليحل محلها الاعتماد على ضمير القاضي في تحقيق العدالة، وما يحيط بذلك من محاذير معلومة.

يمثل الكاتب – من خلال سرده – توجها ليبراليا أسهم في تشكيل وجهة نظر الكاتب مهنيا، مثلما ظهر في تناوله بتحليل جيد لموضوع السياسة العقابية، وكيفية تحديد مقدار العقوبة بالنسبة لمن يدان بجريمة أمام المحكمة، وهل ينحو القاضي منحى موضوعياً بحتاً أم يختار نهج تفريد العقوبة، والذي يكون بالنظر إلى شخص المدان وظروفه المجتمعية لتسهم هذه الأبعاد في رسم السياسة العقابية المناسبة في حالته. ويقدم لنا الكاتب أنموذج المدان الذي ارتكب جريمته في تلافيف أعراف وعادات وتقاليد تجعل من تلك الجريمة تجاوزا يسيرا لا يرقى لمستوى الجريمة الموصوفة ذات العقاب المحدد في القانون، وتقود المدان إلى نعت القاضي بالجنون من فرط استغرابه للبون الشاسع بين السياسة العقابية المتبعة وقواعد التقاليد والأعراف المحلية، كالتي تسود في مجال العلاقات بين الصبايا والصبيان، أو في ممارسة احتساء الخمور البلدية،أو تقليد حمل السلاح للرجل، في المجتمعات البدوية والريفية في السودان. و على الرغم من ميل الكاتب نحو التعاطف مع أعراف الأهالي وتجسير الهوة بين المجتمع والقانون، إلا أنه ينبهنا إلى العلاقة الطردية بين بعض هذه العادات والتقاليد وبين الجريمة، خاصة التجمعات حول الأسواق والتي تنصرف من بعدُ إلى الحانات البلدية (الأنادي) لتخرج منها الجريمة بأشكال متنوعة قد تصل إلى القتال بالأسلحة البيضا.

ولا شك أن هذا النهج المتماهي مع واقع المجتمع المجافي لروح القانون من شأنه تغليب منهج تفريد العقوبة، و يفتح الباب أمام هذا التوجه لصياغة سياسة عقابية تكون تابعة للبيئة العرفية بدلا من سياسة عقابية موجبة ذات وجهة وقبلة تنهض بالمجتمع وتعبر عنها القوانين والعقوبات. وعلى ذات المنوال لم يرُق للكاتب توجه الرئيس جعفر النميري الذي حكم ما بين 1969 و 1985م، عندما أعلن قوانين الشريعة الاسلامية أو قوانين سبتمبر كما سماها الأخوان الجمهوريون، بحسب الكتاب، أو بالأحرى (الطريقة) التي تم بها إخراج ذلك التوجه. وبذل الكاتب جهده كما جاء في السرد لحماية بعض الضحايا المحتملين لهذا التوجه، من خلال تواصله مع القضاة وعناصر إدارة العدالة في النظام القضائي السوداني.

ولعل هذا التوجه الليبرالي في المجال العدلي شبيه بما يجري في الديمقراطيات العتيقة، كما حدث مثلا في بريطانيا منتصف الستينيات عندما قرر البرلمان البريطاني في وستمنستر إلغاء جريمة اللواط بين رجلين بالغين، واستبقت فقط ما يجري بين الأحداث بسبب عدم إمكان تحقق الرضا عند القاصر. وكان في هذا الإلغاء نوعا من التحرك التشريعي والعدلي في اتجاه (الفرد)، في مقابل القيم المجتمعية الكلية، وسحب القانون في اتجاه الميول والتوجهات الفردية، وليس العكس. ويؤدي هذا المنهج إلى إبعاد القانون عن أي وظيفة (إصلاحية) موجبة تمس القناعات الفردية، وهو توجه من التوجهات على أي حال، لم يرد ذكره هنا إلا لأغراض التحليل، ولإثراء هذا العرض لكتاب يعالج شجون العمل القضائي والعدلي بوعي حاضر لكل طيات التكوين المجتمعي من أعراف وتقاليد وظروف حياة.

إهتم الكاتب أيضا بمحنة الضعفاء من عناصر المجتمع، الهائمين تحت الشمس (الشمّاسة). وظهر ذلك جليا في تناول قضية (الكشة) أو (الكشات) وهي الحملات التي تشنها الشرطة لاخلاء العاصمة السودانية من (المشردين) الجائلين بلا مأوى، وهو بلا شك اهتمام نبيل بفئة تعاني من فقدان السند الحامي والحضن الحاني. ومهما جاءت هذه الحملات في إطار مواد قانونية فيها تعريف للمتشرد، مثل قانون التشرد لسنة 1905، إلا أنها في الأساس تعبر عن مشكلة تنموية ومشكلة إنسانية قبل أن تكون مشكلة قانونية، ولا يمكن أن يكون الإخلاء القسري حلا لقضايا التنمية أو القضايا الإنسانية. ومعلوم أن المجتمعات الأصلية في بلاد الدنيا الجديدة كما كانوا يسمونها (مثل أمريكا واستراليا) عانت من ثلاثة مصائر محتملة عند دخول الغزاة إلى بلاد أجدادهم: إما الإبادة (Annihilation)، أو التهجير (Forcible Emigration)، أو الاندماج (Assimilation)، وهو مما تراكم في الذاكرة الجمعية للمجتمع الدولي عبر السنين حتى جاءت المعاهدات الدولية مؤخرا بعد الحروب الكونية لمنع تكرارها، إلا أن هذه المعاني لم تكن في ذهن رجل الشرطة الذي يجري بهرواته وراء الناشئة من الصبيان ممن لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، ولعل هؤلاء ممن استثناهم الله سبحانه وتعالى من العذاب الموعود لمن يرتضي الاستضعاف دون الهجرة مع القدرة عليها، كما جاء في سورة النساء: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا"(99). وإذا تيسر للكاتب حيلة للهجرة فإنه لم ينس من لا يتيسر لهم ذلك من مواطنيه. كما بين الكاتب أثر الاستعمار في استدامة الاستضعاف والتحايل على إنهاء الاسترقاق والممارسات ذات الصلة، بهدف كسب ود القوى الطائفية في السودان ممن يستفيد من تلك الأوضاع، و تلك هي الظروف التي ولد فيها مثل قانون التشرد المذكور.

كانت المحطة الثامنة من الكتاب غنية بمعلومات تثير إهتمام دارسي التنمية، بشأن الآليات التي كانت تعمل بها مؤسسة التنمية السودانية لتكون رافعا من روافع تحريك التنمية في مجالات الصناعة والزراعة وغيرهما مع جلب التمويل اللازم للمشاريع. لقد كان عجبا الاطلاع على تجربة عجز البنك الصناعي خلال منتصف الثمانينيات عن استخدام قرض من بنك التنمية الافريقي بمبلغ 18 مليون دولار واضطرار جهة التمول لسحب ما تبقى من القرض بعد مضي ثلاث سنوات فشل خلالها البنك من سحب ما يزيد عن ثلاثة ملايين دولار.

وإذ تمثل الوقائع و تحري الحقيقة ركيزة أساسية في صناعة العدالة، فقد لاحظ الكاتب من خلال عمله في بقاع مختلفة من أنحاء السودان، أن البسطاء في المجتمعات الأبعد من المدن والتمدن هم الأكثر صدقا أمام القضاء، مقارنة بمن هم إلى المدن والمدنية أقرب، ولعل مبعث ذلك براءة الفطرة البدائية قبل أن يغشاها الفساد. كما عرض لنا الكتاب صورا لبعض مدمني المحاكم، وربما لأغراض أخرى غير البحث عن العدالة، حتى صاروا شخصيات نمطية اشتهرت في المجتمع من حولهم.

أما آخر محطات الكتاب، الحادية عشر، جاءت تزين الذكريات بثلاثة مواضيع غاية في التشويق، تناول أحد هذه المواضيع قصة همة غريبة لأحد المهاجرين إلى المنطقة ضمن رحلة الحج من غرب إفريقيا، ممن طاب لهم المقام في كردفان، عندما قرر إدراك الحجاج بالطيران الفعلي والشخصي إلى الحجاز، إلا أن قصته لم يكن لها مبرر سياقي، سوى كونها ضمن ما يتذكره الكاتب. وتناول موضوع آخر من الثلاثة تحليلاً لرواية شعبية خيالية بلهجة أهلها من عرب كردفان، رسموا بها لوحة تعبر عن رؤيتهم للتجار الوافدين للمنطقة (الجلابة) وعمق الخلاف المجتمعي معهم في الدنيا والآخرة، بحسب الرواية الشعبية. وتناول الموضوع الثالث بالتشريح الأدبي أهزوجة من بادية كردفان الشمالية بعنوان "الغالي تمر السوق"، وهي أغنية ذات إيقاع متهادٍ يحاكي سير الجمل، ذاع صيتها إلى خارج المنطقة بل وخارج السودان بسبب نشاط عدد من مبدعي التطريب من أهل كردفان، حيث يذكر كاتب هذه السطور أن صحيفة (لوموند) الفرنسية كتبت حوالي عام 1984 تحليلا مطولا للأغنية الكردفانية "اللوري حلّ بي دلّاني أنا في الودي"، ضمن عدد آخر من نماذج الفن الكردفاني.

لا شك أن كتابة المذكرات، كما شهدنا في كتاب "ذكرياتي" للمستشار حمزة محمد نور، نشاط غاية في الأهمية لعدد من الأسباب. السبب الأول أنها البوابة التي بها يمكن لتراثنا الشفهي أن يجد طريقه أخيراً إلى الكلمة المقروءة، الثابتة، التي يمكن من بعد أن تتحول إلى رسائل مسموعة و مرئية أو درامية، مسرحية كانت أو سينمائية، في زمان تراجعت فيه ملكات القراءة بين الأجيال الناشئة. السبب الثاني هو أن تدوين المذكرات يملأ الفجوات الأدبية التي لم يسبق تناولها بسبب صرامة مناهج السرد التاريخي الجاد، بما لا يتيح مجالا للولوج إلى طيات المجتمع وطريقة حياة الناس وثقافاتهم وتفاعلهم مع تحدياتهم المحلية، وغير ذلك مما يصعب أن يجد طريقه إلى أقلام الكتاب المتحصنين بغابات الأسمنت في غياهب المدن. و ثالث الأسباب أن تدوين المذكرات ليس مجرد كتابة، بل هو نتاج لـ (عملية) متكاملة يتحول فيها الكاتب إلى جزء من معمل حياتي يختلط بعناصر العيش بشراً وكائناتٍ ومؤسسات، ولفترات طويلة، ثم يعبر عن ذلك من بعد معايشة، وتذوق، وفهم، بما يكسب المدونة ميزات لا تتمتع بها الكتابات الأخرى.



أحمد كمال الدين