إن السمة المميزة لمرحلة ما بعد الاستقلال في أغلب دول العالم الثالث، إن لم نقل جلها، هو الحجم الكبير لتدخل الدولة، الذي كان يشمل كافة أوجه التنظيم الاجتماعي والاقتصادي وذلك عبر مجموعة من المرافق العمومية، ولقد كان هذا التدخل ضرورياً، ويهدف للتأثير على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الموروثة عن الاستعمار، والذي لم يكن القطاع الخاص قادراً على تجاوزها، فوقع عبء النهوض بالاقتصاد الوطني على القطاع العام. إن تمادي الدول النامية في تدخلها في الميدان الاقتصادي والاجتماعي عبر القطاع العام ترتب عنه نتائج وخيمة، تمثلت في تعرض الدولة لعدة إكراهات تدبيرية واقتصادية، تجلت بالأساس في ازدياد النفقات وتفاقم العجز المالي، واستفحال المديونية الخارجية والتضخم المالي وتزايد الفساد المالي بشكل مذهل، والأموال التي استثمرت لم تحقق إلا خطوات بطيئة في عجلة التنمية، وبالمقابل ارتفعت نفقات القطاع العام بشكل كثيف كلفت الدولة ملايين الدولارات، والتي أرغمت الدول النامية على اللجوء للمؤسسات المالية والخضوع لإملاءات المؤسسات المالية الدولية، التي اعتبرت أن تخلي الدول النامية عن المرافق العمومية الاقتصادية والاجتماعية لصالح الخواص هو الكفيل بإخراجها من الأزمة. ومن هنا تصبح خوصصة أو خصخصة المقاولات العمومية التي طالما وفرت للمواطنين خدماتها بالمجان، أو بمقابل يراعي قدراتهم الشرائية، ووفرت لميزانية الدول النامية مداخيل ساعدتها على حسن تدبير الشؤون العامة هي ضرورة بإيعاز من المؤسسات المالية والدولية وذلك لأسباب عديدة، إن خوصصة «خصخصة» المرافق العمومية هدفها تقليص مجال أنشطة القطاع العام لتنتقل إلى أيدي المقاولات الرأسمالية المعولمة، في غياب القطاع الخاص الوطني، وهي تجعل من المواطنين أجراء وعمالاً، وتقلص الأجر والامتيازات، وتحجم المواطن إلى حالة المستهلك. تجدر الإشارة إلى أن الدول النامية تهدف في إطار التحويل من القطاع العام إلى القطاع الخاص إلى تخفيف الأعباء المالية التي تتمثل في المساعدات التي تؤديها إلى المقاولات العمومية في مجال التسيير والتجهيز، وما يحصل من مشكلات لهذه المقاولات. فعوض أن يكون هذا القطاع رافداً للتنمية السوسيواقتصادية أصبح أهم كوابحها، إذ أدت ضخامة عدد هيئات القطاع العام إلى تكفل المالية العمومية أعباء تمويلها وضخ المساعدات المسترسلة لتغطية عجز مهم وأصبحت المقاولات العمومية بمرور الوقت تشكل في حد ذاتها شبكة إدارية موازية مشكلة دولة داخل دولة، وأصبح حجم الدعم الذي تقدمه الدول النامية للمؤسسات العمومية عبئاً ثقيلاً، فالخوصصة «الخصخصة» وسيلة للتخفيف من هذه الأعباء المالية للدولة، الناتجة عن ارتفاع كلفة المساعدات والإعانات المالية للمقاولات العمومية. ويلزم التأكيد بأن الخوصصة «الخصخصة» تعتبر من وجهة نظر بمثابة إعلان من قبل الدولة تظهر فيها رغبتها كطرف للانسحاب من الحياة الاقتصادية والتنافسية والتركيز على خلق وتوفر الشروط الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية المنظمة للعمل الاقتصادي الحر والتوجيه الفاعل لعمليات التنمية الشاملة الهادفة إلى تحقيق التوازن المعيشي النسبي بين أفراد المجتمع وخلق طبقة اجتماعية متوسطة تكون هي الحامل الحقيقي للتنمية والنمو والتطور. فعملية الخوصصة «الخصخصة» إذن تعني تجاوزاً ليس فقط لهذه لأعباء المالية، بل تفويت المقاولات العمومية نفسها واستثمار الدول النامية للأموال الناتجة عن التمويل، فتكون قد وفرت النفقات التي تصرف في مجال مساعدات المقاولات العمومية، وربحت من وراء تفويت وبيع هذه الأخيرة أموالاً كثيرة تستطيع أن تدرجها وتستغلها فيما أنفع من إنجازات اقتصادية أخرى، والوصول إلى هذه الأهداف يستوجب توافر مجموعة من الشروط ومن أهمها توفر قطاع خاص قادر على تحمل أعباء التنمية. إن الخوصصة «الخصخصة» ستؤدي إلى تقليص مفهوم المرفق العام إلى مجرد خدمة، أو اختفائها نهائياً، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن ماهية الدولة إن لم تكن عبارة عن مجموعة مرافق عمومية تضمن للمواطن إضافة إلى الأمن العام، الأمن الصحي والأمن الغذائي، والأمن التعليمي. * رئيس قسم العلوم الإدارية - الجامعة الخليجية