من فوائد السفر والترحال ما يضفيه من متعة وتغيير المزاج والحالة النفسية للسائح ومتعة التسوق إضافة إلى أنه يجعلك تتعرف من خلاله على قوة صبرك وتحملك، خصوصاً إن كنت برفقة مجموعة سياحية بمختلف الأعمار والثقافات والتوجهات، هنا ستكون على المحك، ومن هنا ستكتشف مدى قبولك لدى الناس دون مجاملات، كما ستتعرف من خلاله على الصاحب في السفر الذي لم يغفل عنه ديننا الحنيف، عندما أوصى بالصاحب في السفر، وما سمي السفر سفراً إلا لكونه يسفر عن مكنون صاحبه ويظهره على حقيقته وفطرته.

ففي مطلع شهر أبريل من هذا العام حطت قدمي برفقة مجموعة من الأصدقاء والخلان والذي جمعنا القدر بتنسيق من أحد المكاتب السياحية البحرينية الذي بادر بفتح آفاق تعاون مع نظيره في جمهورية البوسنة والهرسك لنستكشف وبدعوة كريمة من إدارة المكتبين معالم هذه الجمهورية التي تعد إحدى جنان الله على الأرض، ولنغوص في سهولها وجبالها ووديانها المكتسية ببساط رباني زاهي الألوان، يتخلله في كل مكان ماء أزرق عذب رقراق ينم عن بديع صنع الخالق جلت قدرته.. وحاولت في تلك الرحلة الممتعة أن أستكشف أموراً وصلتنا مشوشة عن تلك الجمهورية الفتية التي مزقتها الحرب الدينية بعد انهيار جمهورية يوغسلافيا الاتحادية وبعد أن اصطف الغرب ظلماً مع الصرب ليوقعوا فيها مجازر دموية تعتبر الأسوأ بعد الحروب الصليبية.. وما لفت انتباهنا هو كيف استعادت تلك المدينة عافيتها وتناست الظلم الكبير الذي وقع عليها وفتحت ذراعيها من جديد ليعمل معاً هنالك البوسني والصربي والكرواتي للعق جراح الحرب المدمرة، وإعادة بناء مدينتهم التي أتت على الأخضر واليابس خلال عقدين من الزمان!!

لقد كان هنالك موضوع عالق في ذهني يتعلق بتهافت الكثير من المستثمرين إليها وخاصة الخليجيين والعرب لشراء مساحات واسعة من أراضيها، والتي أكاد أن أشبه تربتها بالذهب الأحمر، وبأسعار تعتبر الأرخص في العالم، وكيف يهون على البوسني بيع أرضه والتخلي عنها!! وبعد التقصي تبين لي أن أغلب المكاتب العقارية هناك تعرض الأراضي الشاسعة لمالكيها من الصرب أو الكروات الذين غادروا تلك المدينة، ومن المتبقين الذين يفضلون الانتقال إلى تلك الجمهوريات للاستقرار مع بني جلدتهم بعد أن وضعت الحرب أوزارها، أما المواطن البوسني المسلم فرغم ما يعانيه من شظف العيش فإنه لا يساوم على أرضه التي سقاها بدمه للحفاظ عليها وعلى هويته الإسلامية التي يعتز بها كثيراً.

كما شد انتباهنا الجهد المتميز، فرغماً عن أن المدينة تقع على خط الأمطار فلم نرَ طيلة فترة رحلتنا أي انسداد لأي مجرى، ولا تكاد ترى أي أوحال من جرائها، كما أن المواطن هنالك يتمتع بحس وتعاون عالٍ، فلا يسمح لنفسه أبداً برمي أعقاب السجائر ولا حتى المناديل الورقية إلا في محلها دون رقيب، والشيء الآخر الذي توقفنا عنده وشد انتباهنا كثيراً هو النظام المروري الراقي الذي لمسنا من خلاله أن إدارة المرور هنالك غايتها إضافة إلى ضبط حركة المرور هو إعانة المواطن على الالتزام بما يحافظ على النظام وحياة المواطن والحفاظ على جيبه في آن واحد!!

فعلى سبيل المثال، عند تحول الإشارة المرورية من الأخضر إلى الأحمر، أي علامة التوقف، فإنه يتم تنبيه السائق بـ3 ومضات هادئة باللون الأخضر، ثم 3 أخرى باللون الأصفر التحذيري، ثم تنتهي بالإشارة الحمراء التي يستحيل معها ارتكاب مخالفة إضافة إلى العلامات الإرشادية التعليمية والتحذيرية الإلكترونية والاعتيادية من مسافات بعيدة.

ويرافق ذلك عمل مستمر في ديمومة وصيانة الطرق مما يذهل السائح رغم الإمكانيات المتواضعة كونها ليست بالدولة النفطية.

وأخيراً لاحظنا أمراً يلفت الانتباه أن تلك المدينة وبالرغم من أنه يقطنها بحدود خمسة ملايين نسمة لكن تكاد تراها هادئة وشوارعها شبه خالية، وعند الاستفسار يتبين أن الجميع يعمل والكل متواجد في وظيفته وحقله ومشغله ويعود لبيته في سيارات النقل الجماعي مع الغروب ولا يتمتع بأجواء مدينته ومناطقها الساحرة إلا في عطلة نهاية الأسبوع.

حقيقة لقد سحرتنا تلك المدينة وذلك الشعب ببديع صنع الله في إتقان خلقه في جمال المظهر والمعشر بشراً وشجراً وحجراً وبإخلاصه وصدقه واعتزازه بهويته ودينه، فلله الحمد أن بقي صوت الله أكبر يصدح في الأوقات الخمسة يتسلل عذباً من وديانها وجبالها وسهولها.

فله الحمد من قبل ومن بعد، ورحم الله شهداء الأمة الذين دفعوا بدمائهم الزكية للحفاظ على تلك القلعة الإسلامية المعتدلة في وسط أوروبا لتبقى شاهداً على عظمة الإسلام واعتداله.