أعرف مسبقاً أن هذه المقالة ستستدعي ردود فعل مستهجنة من كثير من القراء، خاصة من الذين يختارون أن يحكموا على الأحداث إما بعواطفهم أو بظواهرها، فالحديث عن علاقة وظيفية عضوية ومتبادلة بين إيران وتنظيمات الإرهاب مثل «القاعدة» و»داعش» وأمهم التي فرّختهم، أعني «الإخوان»، يجعل البعض يهبون مستنكرين، تحت افتراضات مختلفة. لكنني أتمنى على القراء الكرام أن ينظروا للأمر من وجهة نظر إيرانية بحتة، ليجدوا أن منطق الأمور يقتضي وجود هذه العلاقة الوظيفية واستثمارها لأبعد الحدود.

فالإيرانيون في علاقاتهم في المنطقة وضعوا منذ البداية، وأقصد منذ سقوط الشاه وحتى ما بعد خامنئي، قاعدتين مهمتين تحكمان علاقاتهم مع المنطقة، حكومات وتنظيمات، ويمكن من خلالهما تفسير كثير من المواقف التي تبدو متناقضة مع الفكر الرسمي «المخادع» لما يسمى «جمهوري إسلامي إيران».

القاعدة الأولى: دعم كل من يفتعل الأزمات «في المنطقة» حفاظاً على النظام الإيراني، وهذه قاعدة أكد أكثر من دبلوماسي إيراني سابق على أنها جزء من التوجيهات المنتظمة من الخارجية الإيرانية. ولعل هذا يفسر لماذا تدعم إيران الكثير من التنظيمات المتناقضة معها فكرياً وعقدياً وحتى دينياً وسياسياً، كما هي حال تنظيم «طالبان» الأفغاني و»القاعدة» وغيرهما، بل وأبعد من ذلك حيث رأينا الإيرانيين يدعمون «طالبان» والحكومة في نفس الوقت، وكذلك في كينيا حين دعموا الجيش والمتمردين في وقت واحد، وغير ذلك أمثلة كثيرة.

أما القاعدة الثانية فهي: لو استتب الأمن في الجوار وخصوصاً العراق وأفغانستان سنصبح نحن الهدف التالي. هذه قاعدة ذهبية وردت على لسان منوشهر متقي وزير خارجية نجاد، ويتم عملياً تطبيقها منذ عقود، وهي التي تفسر لماذا شاركت إيران بل وشجعت على احتلال البلدين وتواطأت على إشعال الفوضى فيهما في أكثر من مرحلة.

هنا نعود لداعش فنذكر أولاً بما شاب تأسيسها بشكلها الحالي من أسئلة كثيرة، أبرزها دور رموز القاعدة في إيران، ورموز التنظيمات الإرهابية الذين كانوا موجودين لدى النظام السوري، حليف إيران اللصيق، سواء من كان منهم في وخصوصاً سجن صيدنايا الذي تحول إلى أكاديمية لتخريج المتطرفين تحت سمع وبصر ضباط النظام، أو من كانوا ضيوفاً على أجهزته مثل أبوبكر البغدادي نفسه. ومعروف أن هذا هو نفس الأسلوب الذي استخدمه الإيرانيون بالتنسيق مع نظام الأسد لتجنيد وتدريب الإرهابيين الشيعة الموالين لها قبل إعادتهم لدول الخليج لتنفيذ أعمالهم القذرة.

ونذكر ثانياً بما وثقته جهات مختلفة عن التنسيق الإيراني السوري لتأسيس عدد من التنظيمات الإرهابية في العراق، من بينها دولة العراق الإسلامية التي تمثل الأم الرؤوم لداعش، تحت ستار محاربة الأمريكان، بينما كان الهدف الفعلي إدخال البلد في فوضى وإرباك واقع السنة في العراق ليستفيد منه الطرف المنظَّم وهو التنظيمات الإرهابية الشيعية القادمة من إيران، ووصلت ذروة ذلك المخطط مع انطلاق أحداث سوريا عام 2011 حيث تزامن إطلاق من تبقى من معتقلي القاعدة في السجون العراقية والسورية وبشكل مفاجئ وغير مبرر قضائياً، ولكن بعد تفاهمات صيغت بعناية خلف أسوار السجون.

وفي كل الأحوال فإن أحداث 2014 وسقوط حوالي نصف مساحة العراق بشكل مفاجئ وما تلا ذلك من إصرار الكتل الشيعية المؤيدة لإيران في البرلمان العراقي على لملمة الموضوع ومنع التحقيق الشفاف في الأمر، وخاصة ما يتصل بدور أبرز عملاء إيران في العراق وهو نوري المالكي، فإن هذا كله إنما يعطي مصداقية لما أصبح معروفاً عن الدور الذي لعبه المالكي في تأسيس «داعش» وفتح الأبواب أمامها لأسباب موضوعية عديدة، أبرزها خدمة المشروع الإيراني نفسه، ويكفي أن أشير إلى أحد الأمثلة فلم يكن ممكناً تسويق «الحشد الشعبي» بدون «داعش» رغم أن الحشد تأسس قبل «داعش» كنسخة عراقية من الباسيج الإيراني.

ويشاء الله أن يشهد شاهد من أهلهم، فها هو ممثل مقتدى الصدر في بغداد، إبراهيم الجابري، يعلن بوضوح، أن «نوري المالكي هو الذي سلم محافظات عراقية عدة إلى داعش»، وهو «من جلب المعاناة وقتل أبناءنا من القوات الأمنية في قاعدة «سبايكر»». ونوري المالكي هو رجل إيران الأول في العراق.

وقبل أن يدافع أحد عن «داعش»، باعتبارهم مساكين، اخترقهم الإيرانيون، ولم يدروا ماذا يفعلون، أذكرهم بما قالته «داعش» عن نفسها في تبريرها لعدم استهداف إيران بأي من أعمالها الإرهابية مقابل استباحة بلاد المسلمين وغير المسلمين في جرائم القتل الجماعي المجانية التي نعرف. حيث يشرح الإرهابي المقتول أبومحمد العدناني في رسالته الشهيرة للظواهري وبكل صراحة سبب عدم استهداف إيران أن ذلك تم من قبل داعش «للحفاظ على مصالحها، وخطوط إمدادها في إيران» ملتزمة في ذلك «نصائح وتوجيهات شيوخ الجهاد ورموزه»!

فهل بعد ذلك تتساءلون لماذا كلما اتخذت دولة غربية موقفاً متشدداً ضد إيران، تمت على الفور عملية سرعان ما يتبناها «داعش»؟ أيهما إذن هو الأفعى وأيهما هو الزمار؟