د. بهاءالدين مكاوي

انتهينا في الجزء الاول من هذا المقال الى الجهود التي تبذلها السلطات السودانية من اجل التهيؤ للشراكة المزمع عقدها بين السودان والدول الخليجية خاصة في المجال الاقتصادي . واستكمالاً لهذا الموضوع ، يمكن القول انه وفي اطار تحسين البيئة الاستثمارية تم حل مشكلة الاراضي التي كانت من اكبر المعضلات التي تواجه المستثمر سابقاً ، وقال السيد وزير الاستثمار السوداني الدكتور/ مدثر عبد الغني الذي استضيف في قناة سودانية للحديث عن استعداد السودان للشراكة الاستراتيجية مع دول الخليج ، إن الوزارة عملت وتعمل على تسهيل اجراءات الاستثمار وتبسيطها الى اقصى حد ممكن ، وانه قد تم فتح نوافذ للاستثمار والمستثمرين العرب والاجانب تشمل كل الجوانب المتعلقة بالاستثمار ، وذلك بالتنسيق مع الجهات الاخرى ذات العلاقة باجراءات الاستثمار و المستثمرين مثل : الترخيص ، والجمارك ، والجوازات ( لتسهيل اجراءات دخول وخروج المستثمرين ) ، والاقامة في مكان مخصص للمستثمرين واسرهم ، فضلا عن الامور الخاصة بحركة الاموال وتسهيل هذه الحركة .

وفي الواقع ، فقد انعكست الاجراءات الاخيرة والتي تم الشروع فيها قبل سنوات ( منذ مبادرة الرئيس البشير للامن الغذائي في العام 2013م) في زيادة توجه رؤوس الاموال العربية صوب السودان للاستثمار فيه ، اذ وصلت نسبة الاستثمارات الخليجية الى 78% من الاستثمارات الاجنبية بالسودان ، وللسعودية وحدها 395 مشروعاً استثمارياً منفذا في السودان في مجالات الزراعة والصناعة والنفط والخدمات ، وتبلغ الاستثمارات الاماراتية 6 مليار دولار في القطاع المصرفي والزراعة والخدمات ، وللكويت 43 مشروعاً استثمارياً في مجالات الاتصالات والفندقة والزراعة والعقارات ، وتستثمر مملكة البحرين في مجال الزراعة في السودان وتتجه لفتح سفارة لها بالسودان لمزيد من التعاون بين البلدين الشقيقين . وعلى العموم فان الشراكة الاستراتيجية تهدف الى توسيع مواعين الاستثمار ، واحداث نقلة نوعية في العلاقات بين الدول الخليجية والسودان تراعي مصالح الاطراف المختلفة .



كانت القمة العربية بالرياض قد تبنت في مطلع العام 2013 م ، مبادرة الرئيس البشير لتحقيق الأمن الغذائي العربي عبر توفير السودان لفرص واعدة للاستثمار في مجالى الزراعة والثروة الحيوانية. هدفت المبادرة الى " تعزيز الأمن الغذائي العربي، من خلال توفير مخزون استراتيجي آمن من السلع الغذائية الاستراتيجية يحول دون نشوء أزمات غذائية مستقبلية، بالاضافة الى الحفاظ على استقرار أسعار المواد الغذائية ". ووارتكزت المبادرة على أن يقوم رأس المال العربي بدعم البنى التحتية للمشروعات التي تتعلق بالمبادرة ، ويقوم السودان بتوفير الأراضي والمياه. هذا اضافة الى تنسيق الجهود العربية لتطوير إنتاج المحاصيل الرئيسية من الحبوب والمحاصيل الزيتية والسكر واللحوم، كما دعت المبادرة الىتوحيد التشريعات القانونية في مجال الاستثمار في الدول العربية بما يسهم في جذب المستثمرين والعمل على تكوين قاعدة معلومات استثمارية موحدة ، واستقرار سعر الصرف، اضافة للاستفادة من التجارب الاستثمارية الناجحة ، ومعالجة العقبات التي تواجه الاختلاف في التشريعات القانونية بين الدول العربية ، مع تشجيع إنشاء شركات للنقل البري والبحري لتعزيز التجارة البينية بين الدول العربية .

في المقابل ، كان تقرير صادر عن الامانة العامة لاتحاد غرف دول مجلس التعاون الخليجي قد دعا الى اهمية ان تغتنم دول الخليج الفرص الاستثمارية الناجمة عن انخفاض اسعار النفط والمتوفرة في عدد من الدول ذات الاقتصادات الناشئة ، ودعا التقرير الى ( ابرام شراكات استراتيجية في مجالات الانتاج الزراعي والصناعي ، والتوجه نحو اقتصادات عربية واسيوية للاستفادة من مواردها الزراعية والحيوانية والصناعية عبر استثمار الفوائض المالية التي حققتها دول المجلس في السنوات الماضية ) .

ان هذه الشراكة ستعود – حتماً- بالنفع على الطرفين ، فبالاضافة الى حل مشكلة التمويل بالنسبة للسودان بما يمكنه من الاستفادة من موارده وامكانياته الكبيرة ، فانها توفر وظائف جديدة للسودانيين ، وقد اشار الدكتور مدثر عبد الغني وزير الاستثمار الى ان هناك 923 الف سوداني يعملون في مشاريع استثمارية عربية او اجنبية بالسودان ، وان صناعة الاسمنت وحدها استوعبت 12 الفا من المهندسين السودانيين ، فضلا عما وفرته من فرص التدريب الجيد للعمالة السودانية ، والاثار الاجتماعية الايجابية لهذه المشروعات الاستثمارية .

وعلى الجانب الاخر ، وكما سبقت الاشارة في الجزء الاول من هذا المقال ، فان دول الخليج ، رغم امكانياتها المالية الكبيرة ، الا انها بحاجة إلى التقليل من وارداتها الخارجية، خاصة الغذائية، للحفاظ على احتياطياتها من النقد الأجنبي ، ومن الممكن أن يكون السودان بديلاً لهذه المنتجات المستوردة.

اما من الناحية السياسية والامنية فان الامن القومي العربي يتعرض اليوم لتحديات جدية ، وتمثل دول الخليج العربي بؤرة ومركز النظام الاقليمي العربي ، وتواجه تحديات الامن القومي العربي وعلى عاتقها تقع مسؤولية الحفاظ على الامن القومي العربي في نسخته الجديدة . لقد كان الاهمال الافريقي هو ديدن الدول العربية عامة والخليجية خاصة ، ويكفي دليلا على ذلك ما أورده الدكتور المصري محمد عاشور مهدي في كتابه ( العلاقات الخليجية الافريقية ) ، من ان دول مجلس التعاون الخليجي ليس لها أي تمثيل دبلوماسي في 26 دولة افريقية ، وان 15 دولة افريقية ليس لها بعثات دبلوماسية في أي دولة من دول الخليج العربي .

ويرى الدكتور عاشور انه " ورغم تنوع نشاطات الصناديق التنموية الخليجية بالقارة الأفريقية، فإن البيانات تؤكد ضآلة القيمة الإجمالية لتلك المشروعات، إضافة إلى ندرة اهتمام الصناديق السيادية الخليجية للاستثمار بالدول الأفريقية، وتفضيلها الاستثمار في الدول الغربية ".

لقد كان من الواجب الاهتمام بالدول الافريقية من جانب دول الخليج خاصة بسبب سيطرة الدول الأفريقية على الممرات الملاحية، التي تربط قارات العالم، وتكتسب لهذا السبب أهمية بالغة في تأمين صادرات دول الخليج، التي تعتمد بنسبة 90% على عائدات النفط، إلى العالم، وكذا الواردات من السلع والخدمات، في المقابل فان إسرائيل تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع 48 دولة افريقية ، وكذلك ايران التي تحركت باتجاه أفريقيا سياسياً وثقافياً واقتصادياً، ثم وظفت ذلك كله في تحقيق مكاسب عسكرية.

لقد ادركت المملكة العربية السعودية مخاطر هذا الابتعاد فعملت جاهدة من اجل تعزيز تواجدها في منطقة القرن الافريقي ، فسعت الى اقامة قاعدة عسكرية في جيبوتي ، كما تحركت للتنسيق مع كل من ارتيريا واثيوبيا .

ويلحظ المراقب اهتماماً خليجياً في السنوات الاخيرة بالقارة الافريقية ، وقد تبدى ذلك في الزيارة التي قام بها رئيس جنوب افريقيا الى المملكة السعودية ، وما حظيت به زيارته من اهتمام من قبل قيادة المملكة ، اذ شملت المحادثات بين الطرفين " المجالات السياسية والأمنية والعسكرية، و تنمية التبادل التجاري بين البلدين " .كما قام الشيخ تميم بن حمد امير دولة قطر بزيارة الى بعض الدول غير العربية (أثيوبيا،كينيا ، وجنوب أفريقيا ) ،ناقش فيها مع المسؤولين عدداً من القضايا الاًمنية والاقتصادية المهمة .

لقد قاد التقارب السوداني السعودي الى انفتاح غير مسبوق في علاقات المملكة بالدول الأفريقية، فحسب ما صرح به مدير مكتب الرئيس البشير الفريق طه عثمان للصحافة، فقد كانت زيارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي للسعودية في العام قبل الماضي نتيجة لتنسيق سوداني سعودي؛ هو ما فتح الباب امام علاقات سعودية ارترية متميزة ، وكذلك الحال مع موريتانيا وإثيوبيا، بل ذكر الفريق طه أنه " سافر بنفسه مع مدير المخابرات السعودية إلى إثيوبيا، والتقوا رئيس الوزراء الإثيوبي ليحدث اختراق في العلاقات الإثيوبية السعودية أعقبتها زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي للسعودية وإعلان دعمه لعاصفة الحزم" ، وقال الفريق طه: إن السودان نظم عشرين زيارة رئيس أفريقي للمملكة، وأنه ساعد في ترميم العلاقات بين جنوب أفريقيا والسعودية؛ حيث كانت تشهد فتورا من زمن، وقال" إن كل الرؤساء الأفارقة يعتبروننا أفضل الطرق للتواصل مع المملكة، وأننا مفتاح للتعاون مع السعودية" .( الجزيرة نت ) . وبالطبع يمكن ان يقدم السودان لدول الخليج الكثير في هذا الجانب نظرا لعلاقاته المتميزة مع كل الدول الافريقية تقريباً ، ولوجوده في قلب المؤسسات الافريقية السياسية والاقتصادية والعسكرية .

ويؤكد المفكرون الاستراتيجيون ان عمق الامن القومي العربي يتجه الان جنوبا ( الى حدود السودان الجنوبية ) ببروز خارطة جديدة ترتبط بالبحر الاحمر وبمحاربة الارهاب في القرن الافريقي ، وهو ما يجعل للسودان دورا متميزا بما له من موقع استراتيجي مهم ، وقوة بشرية ضاربة لا ترتبط فقط بحرب اليمن بل تمتد الى افاق ارحب خلال المرحلة القادمة بسبب المهددات الاستراتيجية الجديدة للامن القومي العربي .