فاطمة عبدالله خليل:

بالأسبوع الماضي كان لقاؤنا مع الدكتور فهد العرابي الحارثي – رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام، ومع مفكر بمقامه.. لم يكن لقاء صفحة واحدة كافياً أبداً لأن نتعرف على خلاصة فكره وننهل مما لديه من آراء ورؤى، وبينما تحدثنا في الجزء الأول من اللقاء حول مراكز الأبحاث ومخرجات البحث العلمي التي ستنعش المستقبل، والجامعات ودورها في صناعة الفكر لدى شباب باتوا يحتشدون علماً ومعرفة من أجل بلوغ طموحاتهم وآمالهم، أردنا اليوم أن نسلط الضوء على خلاصة البحث العلمي التي أنعشت العقول وولدت لدينا مفكرين من طراز فريد كضيفنا الحارثي.

مستقبل التعاون الخليجي



وحاولنا هذه المرة أن نطرق عالم السياسة بشكل مباشر، من خلال حديث مستفيض أبحرنا فيه على مراكب تشع بنور المعرفة وتبشر بضفاف خليجية آمنة، إن استطاع الخليج العربي أن يلد من أمثال ضيفنا الكريم المزيد.

ولأن من أولوياتنا "الوحدة الوطنية" بمفهومها العميق المتجذر في نفوس الخليجيين، تساءلنا كيف يرى الدكتور فهد العرابي مستقبل التعاون الخليجي تحت مظلة هيكل مجلس التعاون، وإذا ما أصبحت دول الخليج العربي بحاجة لهيكل جديد يؤطر وحدتها، فأجاب أن "مجلس التعاون الخليجي قد حقق إنجازات جيدة على مدى 30 عاماً مضت، لكن هذه الإنجازات لا تتناسب مع الاهتمام الذي أعطي لهذا المجلس ولا تتواءم مع المدة الزمنية التي انقضت من عمره"، مشيراً إلى أن الخليجيين يتطلعون لأن يكون مجلسهم أكثر فعالية مما هو عليه اليوم، معللاً "أن المجلس دخل منذ سنوات في مرحلة الركود، وقد استنفذ كل ما يريد أن يقوم به في ظل الظروف القائمة، ولم يعد لديه جديد يقدمه؛ ما جعله يدور حول نفسه".

ولفت الحارثي إلى أن تجربة مجلس التعاون الخليجي مؤخراً وصلت إلى مرحلة خطيرة جداً، داعياً "لانتشال تجربة مجلس التعاون من الواقع الذي تقبع تحت وطأته، إلى خلق تصور جديد للتعاون والتفاهم بين الدول الأعضاء التي اشتركت في إنشائه، لاسيما وأن الظروف التي دفعت لإنشاء المجلس ما زالت قائمة، من حيث المهددات والمخاطر من جهة، ومن حيث طموحات الخليجيين من جهة أخرى، لابد أن تلك المخاطر وهي أصبحت من الفداحة بما يفوق في تصاعد مستمر ما كانت عليه من ذي قبل، ولهذا.. لا بد من تطوير صيغة جديدة لمجلس التعاون؛ حتى يتمكن من الاستجابة للمخاطر والتهديدات التي تواجه المنطقة، ولكي يكون عند مستوى تطلعات الشباب الخليجي الذي ارتفع سقف مطالبه بأكثر مما نظن".

وأردف الحارثي لقد "طُرحت صيغة الوحدة الخليجية -ومع الأسف الشديد- تحولت إلى نقطة خلاف بين دول مجلس التعاون بدلاً من أن تكون نقطة التقاء، وعوضاً عن أن تكون وحدة أصبحت محرضاً على الفرقة، وطُرح أيضاً مشروع الملك سلمان مؤخراً، وهو مشروع تنسيقي متقدم.. أكثر من صيغة التعاون القائمة اليوم، وربما أقل من فكرة الاتحاد، لكننا أيضاً لم نلحظ في هذه الصيغة تقدماً حقيقياً". وأكد الحارثي على أن تجربة مجلس التعاون الخليجي في ذاتها "صمدت في عالم عربي، لم نعتد فيه على صمود كثير من التجارب الرائدة، وهذا بحد ذاته نجاح، ولكنه أقل بكثير من طموحات الخليجيين".

وفي ظل الحديث عن موجبات الوحدة الخليجية، وما يتعرض له الخليج العربي من مهددات أمنية وسياسية، لم يكن هناك مناص من التطرق لموضوع بات يفرض نفسه في أغلب اللقاءات النخبوية الخليجية وتصريحاتهم للإعلام، ألاَّ وهو إيران وسياستها تجاه المنطقة، وكنا قد تساءلنا وضيفنا الكريم عن مستقبل العلاقات الخليجية الإيرانية وآفاقها وإن كان هناك ثمة انفراجة محتملة في أفق هذه العلاقات، ولكن الحارثي سرعان ما انطلق بالحديث قائلاً " أعجبُ أحياناً عندما يطرح تصور التقارب الخليجي الإيراني، خصوصاً وأن هناك من يسهب فيه ويلوم العرب والخليجيين على أنهم لم يتخذوا أي خطوة في اتجاه الالتقاء مع إيران، ولا أدري كيف لذلك أن يتحقق في ظل التحديات الراهنة والمنجزات غير المريحة من قبل الجانب الإيراني، والتي تشكل تهديداً بالغ الخطورة لأمن المنطقة".

وأردف الحارثي "إيران حاضرة عسكرياً وسياسياً في أربع عواصم عربية بشكل فاضح وقوي ومهين للعرب، وهي تتبختر في لبنان وسوريا والعراق واليمن. وفي ظل "الاحتلال" الإيراني لهذه البلدان، كيف يمكن أن نتحدث عن تقارب مع إيران؛ فإننا حتى وإن اشترطنا على إيران أن توقف تدخلاتها في المنطقة، لن تستجيب لهذا الطلب؛ فإيران تعتبر ما حدث اليوم منجز مهم من منجزاتها، والإيرانيون يصرحون بهذا على نحو فاضح، ويعتبرون وجودهم في تلك العواصم العربية الأربع من الإنجازات الإيرانية المهمة في سياساتها تجاه المنطقة. فكيف يمكننا تصور أن يكون هناك تقارب وتفاهم مع إيران في مثل هذا الوضع؟!!"

ولفت الحارثي إلى تصريحات الإيرانيين المتكررة والتي تكون دائماً تهديدية واستعلائية تجاه العرب والخليجيين، وعقب على هذا بقوله "لا أعتقد أننا ينبغي أن نتطلع إلى أي نوع من التفاهم مع دولة تريد إذلال شعوب منطقتنا واحتلالها. إيران لن تقبل بالتنازل عن المكاسب التي حققتها في المنطقة، ونحن كخليجيين لن نقبل بوجود هذه المكاسب للإيران واستمرارها، وأعتقد أن المعركة مستمرة مع إيران ولن تنقطع، ولهذا فإن إلتقاء الطرفين فيه صعوبة كبيرة جداً إن لم يكن مستحيلاً بالمرّة".

القوة الناعمة الإيرانية

ورغم أهمية الوقوف على واقع الإعلام الخليجي بشيء من التفصيل، إلاَّ أن تقديم الحديث عن الإعلام الإيراني في سياقه، فرض نفسه في ترتيب أولويات هذا اللقاء، ومع الإقرار بالتفوق الإيراني في المجال الإعلامي، ناقشنا مع الدكتور الحارثي أسباب فشل دول الخليج في تسويق قضاياها كما فعلت إيران، إذ علّق على هذا بقوله "تفوقت إيران في بناء قوتها الناعمة، وإن أردنا تسمية الأشياء بأسمائها فهناك منجزات لإيران لم يستطع العرب أن يواجهوها بالشكل الصحيح والمناسب.

وأوضح الحارثي أن "قوى الضغط الإيرانية في الأوساط السياسية والإعلامية بالولايات المتحدة الأمريكية، تأتي، في نجاحها وتأثيرها، في المرتبة الثانية مباشرة بعد قوى الضغط الإسرائيلية، وفي مقابل هذا لا وجود لقوى ضغط عربية لمواجهة الخصمين اللدودين إسرائيل وإيران" واصفاً الأمر بـ"الفشل الكبير جداً على المستويين الإعلامي والسياسي، في الحصول على نفس القدر من التأثير والنفوذ الذي حققته القوى الناعمة الإيرانية".

وأضاف "هذا النجاح الذي حققته إيران لم يولد بين يوم ليلة فإيران قد عملت عليه منذ وقت طويل لا يقل عن 25-30 عاماً، وأنفقت من أجله تكاليف باهظة، وعملت على تحقيقه وفق استراتيجية واضحة، حتى أن تلك الاستراتيجية بدت شديدة الوضوح ليس للإيرانيين وحسب وإنما للآخرين أيضاً، وتعمل هذه الاستراتيجية على أن تخلق من إيران صورة مناقضة وبديلة للدول المنافسة لها في المنطقة، ونحن في الخليج أمامنا مشوار طويل ملئ بالصعوبات لكي نستطيع أن ننشئ قوة ناعمة قادرة على أن تهيء لبيئة خارجية تفسح لدول الخليج وقضايا العرب الأساسية مكاناً في الجانب المنصف من حوارات ومناقشات هذا العالم".

وكشف الحارثي عن مفارقة غاية في الأهمية، أوضجها بقوله "نرى اليوم قوى كبرى كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي يتخذون من إيران مواقف رسمية شبه سلبية وأحياناً سلبي جداً، كما أن إيران قبعت تحت الحصار والمقاطعة الاقتصادية لسنوات طويلة، وهناك غضب متبادل بين إيران والعالم، ومع هذا فإن إيران على مستوى المنظمات الأهلية والإعلام الخارجي في الدول الكبرى، ما زالت تحقق مكاسب أكثر بكثير من الذين يعتبرون أنفسهم أصدقاء للغرب والولايات المتحدة بل يعدون أنفسهم شركاء استراتيجيين، فكيف يمكننا أن نفهم كيف تحقق إيران تلك المكاسب وهي الخصم الذي يواجه بموقف العداء، بينما نحن لم نستطع تحقيق أي نجاح رغم أننا نقف في خانة الشركاء الاستراتيجيين ذوي الأهداف الواحدة المشتركة، ربما يصعب فهم ذلك بمعزل عن تقدير حجم القوة التأثيرية للقوة الناعمة الإيرانية في تلك المناطق".

الإعلام الخليجي غير هادف

وعودة إلى الإعلام الخليجي بما أن ضيفنا من ذوي الخبرات الكبيرة في مجال الإعلام ممارساً وباحثاً، تطرقنا للحديث عن فاعلية الإعلام الخليجي في خدمة قضايا دوله ومواقفها السياسية، وعرّج الحارثي على الأمر بقوله "لا أظن أن الإعلام استطاع أن يبني رؤية حقيقية تستشرف دوره في الحاضر والمستقبل، ولا أعتقد أن هناك أهداف حقيقية وضعها لنفسه ويسعى لبلوغها، ولا أعني الأهداف العامة التي تدخل في مجال العموميات والفلسفيات والأقوال والأفكار الفضفاضة وإنما أعني الأهداف الاستراتيجية في المدى القريب والمدى المتوسط والمدى البعيد" مشيراً إلى أهمية الإجابة عن سؤال "ما هي المنجزات التي نطمح لتحقيقها في المخيال الدولي عن الخليج؟".

وعلل ما ذهب إليه بقوله " إن هذا الأمر غير متحقق -للأسف الشديد- فالإعلام العربي يقتصر دوره على الترفيه بالدرجة الأولى ونقل التقارير الرسمية".

وأردف "هذا فيما يتعلق بالإعلام الرسمي.. أما الإعلام الأهلي فقد قصر دوره -للأسف الشديد- على التسلية والترفيه والمنطقة تتعرض لهجوم كبير جداً بالترويج لمفاهيم خاطئة عن الخليج والسعودية والإسلام، بينما لا نجد عمل ملموس للإعلام لمواجهة هذا الهجوم، فالإعلام يخاطب نفسه أكثر مما يخاطب العالم، بل أنه يسهم أحياناً في فتح أبواب النار على نفسه وعلى مجتمعه، فضلاً عن تغييب المجتمعات عن واقعها الحقيقي وتطلعاتها، وهو ما يوجب العمل من المؤسسات الإعلامية على وضع خطط إعلامية ترسم بوضوح ملامح أهداف قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى، قابلة للتطبيق ومن ثم القياس.

وألقينا مراسينا..

ونحن نتلمس حرقة على حال العرب بين الأمم والعالم، حرقة أوجبت التحرك الجاد إعلامياً وسياسياً وأكاديمياً من أجل عبور أزمات المنطقة بسلام، في رحلتنا مع الحارثي حظينا بمكاشفات هامة تجعل من الضرورة على صانع القرار إعادة النظر في إدارة علاقاته الخارجية خصوصاً مع الغرب وتقديم صورة جديدة له على نحو مغاير وبفاعليه من خلال كافة القوى الناعمة المتاحة والتي من الضرورة العمل على تفعيلها ورفع كفاءتها في دول الخليج العربي، وتوصلنا إلى أن الإعلام من الأسلحة الهامة المهملة والذي كان من الأجدى الاستثمار فيه على نحو أمثل يجنب المنطقة كثير من أزماتها الراهنة، والأهم من كل هذا أن تعمل الدول وفق سياسة النفس الطويل، وأن تتحلى بالصبر من أجل تحقيق أهدافها بالمستقبل وضمان حقوق الشباب والأجيال القادمة في العيش على ضفاف خليجية آمنة لطالما كنا ننشدها في كل مرة.