ما سأقصه عليكم سادتي ليس ضرباً من الخيال وليس بأساطير الأولين!

إنها حقائق مؤلمة ونكبات وفواجع يندى لها الجبين ومن صنع بني البشر.

إنها أزمة أخلاق شخوصها ذئاب بشرية أفرزتهم الحروب العبثية من المجاميع الإرهابية والطبقات السياسية الفاسدة وتجار السلاح ومصاصي الدماء وضحاياهم الفقراء والبؤساء من الشيوخ والنساء والولدان الذين لم يجدوا لهم حيلة ولا يهتدون سبيلاً.

وكثيرة هي المآسي التي خلفها أولئك المجرمون ضمن منظومة عالمية لها أهدافها المحددة في نهب الخيرات وإشاعة المنكرات وتشويه المذاهب والأديان وتعاليمها، بل السعي لسلخ الإنسان عن قيمه وأخلاقه التي رضعها وورثها والتي كانت أحد أركان التعايش بين بني البشر وصولاً إلى بث الفرقة والكراهية بين أبناء البلد والدين الواحد، ثم تبرير القتل بفتاوى تكفيرية ظالمة مدفوعة الثمن ومن ينجو منهم يضطرونه للتشريد والتهجير!!

نحن اليوم أمام أكبر نكبة ومأساة إنسانية يشهدها العالم الحديث.. إنها أزمة المشردين والنازحين الذين فاقت أعدادهم الملايين والذين يتمركزون في بلادنا العربية!!

فلقد فاقت مأساتهم جميع مخلفات الحروب العالمية وقد خرجوا عن سيطرة الأمم المتحدة بجميع منظماتها وهيئاتها!

وحالي كحالكم سادتي، فلقد شاهدنا وقرأنا ما يتسرب لأجهزتنا الذكية من معاناة أولئك المساكين وما يقاسونه من جوع ومرض، لكنه ليس الخبر كالعيان.

فعزمت الأمر ووليت وجهي شطر مدينة أربيل العراقية، فحطت قدمي عند المخيمات المقامة خارج المدن لنازحي مدينة الموصل المنكوبة التي ضربها الإرهاب فأحالها وأهلها إلى أثر بعد عين، فبعد رحلة شاقة استطعنا الوصول إلى داخل تلك المخيمات، وهالنا ما رأينا وما سمعنا ففي كل مخيم وكل خيمة قصة تحكي ظلم البشر!!

وقبل أن أسرد عليكم بعضاً من تلك القصص لا بد من الإشارة إلى أن هناك جهداً كبيراً تبذله بعض المنظمات العراقية والعربية والعالمية لتقديم المساعدة لمئات الآلاف من النازحين، وأخص منهم بالذكر منظمة البارزاني التابعة لإقليم كردستان العراق، وقنصلية المملكة العربية السعودية، ودولة قطر ودولة الكويت الشقيقة ودولة الإمارات السباقة والمنظمات المنضوية تحتهم، والجهد المتميز لمنظمة الصليب الأحمر التي تعاملت مع أزمة النازحين بإنسانية وتجرد، وكذلك بعض المتطوعين من أبناء الحدباء للإغاثة الذين التقيتهم ورافقتهم وأحييهم لنزاهتهم رغم إمكانياتهم المحدودة، إلا أنهم يعملون متكاتفين أفضل بكثير من بعض المنظمات والتي اتخذت من تلك المهمة النبيلة غطاء لثراء فاحش، وكذلك تخلى بعض من الأغنياء والمحسنين لاعتبارات كثيرة غير مبررة عن واجبهم الشرعي والأخلاقي ليوم ذي مسغبة، وكذلك قد عطلت صلة الأرحام فكثير من المشردين لديهم أقارب ميسورون أشاحوا بوجوههم عنهم!!

وما يزيد في المأساة تخلي بعض من التجار والساسة عن أخلاقهم فتحولوا إلى مافيات تكاد أن تغير كفة الخير بجشعهم بدخولهم كوسيط وبطرق شيطانية ليستحوذوا على الكثير من أموال المحسنين المتدفقة من خارج العراق وداخله، مستغلين مواقعهم ومراكزهم ليفرضوا واقعاً مريراً ينعكس سلباً ليزيد من معاناة أولئك المحرومين.

وللأمانة نقول إنه ليس كل ما يقال وينقل صحيحاً عن حال المخيمات وساكنيها، فلكل مخيم من تلك المخيمات وضعه، فبعض منها في وضع جيد كمخيم بحركه داخل حدود أربيل وبعضها في حالة مزرية كحال مخيم جمكور التابع لقضاء الحمدانية الذي سجلنا فيه حالات من البؤس والعوز وتفشي الأمراض ما لا يمكن تحمله وتصوره.

وأنقل لكم بعضاً من تلك المعاناة لنذكر منظمات الإغاثة للأمم المتحدة بحالهم ونحفز الإخوة العراقيين والجمعيات الخيرية والمحسنين العرب للالتفات لهم فهم أمانة في رقابهم، وبالتأكيد هنالك مخيمات لم نستطع الوصول إليها فيها من المعاناة والقصص أشد إيلاماً: تم إنشاء مخيم جمكور منذ مدة أربعة أشهر وهو مخصص لنازحي الساحل الأيمن من مدينة الموصل المنكوبة، ويقطنه بحدود عشرة آلاف نازح وهم في ازدياد مستمر، فمنذ تلك المدة لم يتم بناء مركز صحي متكامل لهم لعلاج الحالات الطارئة والأمراض المزمنة، ولا يوجد فيه مصدر مؤقت للطاقة الكهربائية، وقاطنوه يعانون من حالات مرضية وتردٍّ صحي شديد، وعلى سبيل المثال التقيت بشاب حكى لي أنه لم يذق طعم النوم منذ أسابيع لالتهاب في ضرسه، ولا يتوفر في المخيم أي شريط مسكن، وهو يتوسل بإخراجه من المخيم وإرساله إلى أربيل لقلعه!

والحديث يطول ولنا وقفات أخرى مع هذه المعاناة الإنسانية التي غفل عنها العالم!