كثيرون حاولوا سبر أغوار الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السعودية، وتحليل أبعادها والحكم على ما إذا كانت زيارة تخدم الخليج العربي والأمتين العربية والإسلامية، أو زيارة تهدف لخدمة الولايات المتحدة الأمريكية فقط.

هناك قراءات عديدة لما شهدناه، كثير منها للأسف «سطحي» ولا يرتقي لأن يكوّن «قراءة حصيفة واقعية» بقدر ما هو انعكاس لنمط تفكير سلبي سائد لدينا في مجتمعاتنا، يصورنا كأمة ضحية دائمة السقوط في أفخاخ الغرب، بانياً كل أفكاره على نظرية المؤامرة.

هناك من يهرع ليقول بأنهم جاؤوا لنا من أجل أموالنا، وأنهم جاؤوا من أجل نفطنا، وأنهم جاؤوا لأجل مصالحهم، معولين على كرم الضيافة الخليجي والعربي، مستغلين طباع الشهامة والنخوة والفروسية التي يتحلى بها قادتنا، دون أن يفكر هؤلاء النفر، ولو قليلا، أنهم في المقابل عقول ليست بهينة، وعزم وإرادة تتفوقان حتى على الغرب فيما يخطط له.

وبالتالي، فمن استفاد أكثر؟ هل الولايات المتحدة الأمريكية، أم المملكة العربية السعودية، ومعها طبعا دول الخليج العربي والعرب والمسلمين؟!

مشكلة البعض أنه لا يعرف كيف يقرأ الأرقام، فحين يضخم الإعلام، بالأخص الأجنبي بعضاً منها ويصورها على أنها «هدية» منحت لترامب والإدارة الأمريكية الجديدة، نجد هذا النفر ممن هم لدينا، يسقطون في الفخ الإعلامي الغربي بسهولة، وتجد وسائل التواصل الاجتماعي تضج بآلاف الرسائل التي تروج لمسألة الخداع ونظريات المؤامرة وأن الخليج فتح خزائنه متبضعاً من السوق الأمريكي الواسع. بعض السطحيين كتب مثلاً يقول إن الرئيس الأمريكي زار كندا والمكسيك وعدة دول أخرى، ولم يحصل على أي مبلغ، لكن في زيارة واحدة للخليج خرج بـ 400 مليار دولار! متناسياً هذا «المتذاكي» وبـ«سذاجة» موغلة في «الغباء»، أن السيد ترامب لم يزر هذه الدول حتى الآن، بل أول زيارة هي للسعودية، وأول قادة اجتمع بهم هم قادة دول الخليج بعد لقائه الرفيع مع خادم الحرمين الشريفين حفظه الله.

بالتالي، قراءة الأرقام بطريقتها الصحيحة، تحتاج لعقول ذكية، لا لعقول يسهل دفعها دفعاً لممارسة الصراخ والعويل دون تفكير.

لنأخذ الكلام الصحيح ممن ينشر تفاصيل الأمور، وهنا أعني الإعلام الأمريكي، والذي كثير منه مازال يهاجم الرئيس ترامب، خاصة وأن نسبة كبيرة من هذا الإعلام محسوب على التيار الداعم لأوباما ومن بعد هيلاري كلينتون، ومن هذا المنطلق، هذا الإعلام بسعيه لمهاجمة ترامب في تقاربه «الذكي» من الخليج العربي والعرب والمسلمين، يكشف لنا تفاصيل هامة، كان حرياً بأن يجتهد كثير من أبناء الخليج في نشرها وبثها ليعرف العالم كيف هي «قوة» الخليج العربي، وكيف أن قياداتنا بمواقفها وإستراتيجياتها، قادرة على فرض تغيير الخطاب وتغيير السياسات لدى الأقطاب الدولية الكبرى، والدليل تحول مضامين خطابات السيد ترامب رئيساً، عن خطاباته مرشحاً. صحيفة «واشنطن بوست» والتي لها من المواقف العدائية للخليج العربي الكثير، ولها من الانتقادات للرئيس الأمريكي أيضا الكثير، نشرت تقريراً تحاول فيه النيل من زيارة ترامب لمنطقة الخليج العربي، لكنها كمن رمت رمية «ارتدت» عليها، حيث كشفت أن الصفقات الضخمة التي تمت ووصلت لسقف 400 مليار دولار صبت لصالح السعودية بنسبة أكبر من الولايات المتحدة، بخلاف من روج له غربيون كثيرون وصدقهم كثيرون لدينا للأسف. الصحيفة بينت نقاطاً هامة، تكشف عن ذكاء القيادة السعودية، وبعد نظرها، وتفوقها في عملية بناء التحالفات الدولية.

الصفقات العسكرية التي وقعت تجاوزت قيمتها 110 مليارات دولار، تشمل الطائرات المقاتلة والسفن الحربية والأنظمة الدفاعية، وكلها تأتي في إطار دعم الولايات المتحدة للتحركات العسكرية التي تقوم بها السعودية وتقود تحالفاتها في المنطقة.

لكن علاوة على ذلك، تأتي تفصيلات الأرقام الأخرى التي تبينها الصحيفة وتكشف بأنها مكاسب للسعودية، كونها أرقاماً تمثل أموالاً ستستثمر في السعودية وليست في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ الداخل السعودي سيستفيد من صندوق استثمارات أمريكي ضخم في البنية التحتية بقيمة 40 مليار دولار، ونجحت السعودية في الحصول على تعهدات والتزامات من الشركات الأمريكية لخلق عشرات الآلاف من الوظائف للسعوديين وإنشاء مصانع لتصنيع السلع داخل السعودية، وليس استيرادها مباشرة من أمريكا.

وكشفت الصحيفة الأمريكية بأن أرامكو وحدها وقعت اتفاقيات بـ 50 مليار دولار، ستخلق مزيداً من الوظائف للسعوديين وستزيد قوة لقوة الاقتصاد السعودي.

وواصلت الصحيفة في تقريرها الذي واضح أنه كتب بلهجة وصياغة في «استياء»، الكشف عن أن كل الاتفاقيات التي وقعتها السعودية مع الشركات الأمريكية، تلزم الأخيرة بتقديم آلاف الوظائف داخل السعودية بالتساوي مع نظيرتها في أمريكا، مع إجبار نقل التكنولوجيا لداخل السعودية والعمل على تدريب السعوديين عليها وتأهيلهم.

وفيما وصفته بالأخطر، أن صفقات التسلح كانت لها أبعاد أكبر، إذ اتفاق شركة «لوكهيد مارتن» الذي وقع، يقضي بتصنيع 150 طائرة «بلاك هوك» الهليكوبتر الحربية الشهيرة داخل السعودية. وهو بحد ذاته اتفاق فيه من التحليل الكثير، خاصة في إطار تعزيز القوة العسكرية السعودية، التي هي أصلاً متطورة ومتقدمة.

يضاف إلى كل هذه المكاسب التي كشفت بالأرقام، تعهد الولايات المتحدة ببناء صداقة وعلاقات «رصينة» قائمة على الثقة، وعدم التدخل في شؤون دول الخليج، بخلاف ما كان يفعل أوباما، إذ قالها ترامب بصريح العبارة «لن نقوم بممارسة وعظ الدول في طريقة إدارتها لشعوبها». زيارة ترامب للسعودية، فيها انتصار كبير للخليج العربي والعرب والمسلمين، فيها استعراض قوة قادته السعودية بجدارة وحنكة، حدث أشعرنا بالفخر والأنفة، وكيف أن الغرب وقواه الكبرى مجبرون على احترامك حينما تتعامل معهم معتداً بعزتك وكبريائك وطبعاً قوتك. شكراً للسعودية وشكراً للقائد المحنك الذكي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله، أنت فخر وعز للخليج والعرب والمسلمين.