ليس لنا من العلم بتاريخ المغول إلا اجتياح بغداد وتدميرها والقضاء على الدولة العباسية المتهالكة أصلاً. ومعرفة مشوشة حول اعتناقهم الإسلام، ثم يغيب ذكرهم عن تصوراتنا. والتاريخ المغولي طويل ومعقد وممتد جغرافياً تمدداً متذبذباً بين التوسع والانكفاء. وهو تاريخ لممالك تعددت فيها الأعراق والأديان والمذاهب وشاركت مختلف الملل والطوائف في إدارة حكم الإمارات المتعددة. وتلك التعددية الثابتة كانت مصدر غناء وثراء في التاريخ المغولي، وكانت أيضاً بوابات للفتن المتعددة في حقبة تاريخية غير مستقرة أصلاً.

يبرز في تاريخ المغول شخص رشيد الدين فضل الله الهمذاني «1247- 1318»، وهو شخصية فكرية عبقرية ونادرة تكافئ الشخصيات الثقافية والعلمية العملاقة في التاريخ الإسلامي. فقد كان مؤرخاً فذّاً ألف أهم كتاب «جامع التواريخ» الذي يعد أهم كتاب في تاريخ المغول. وكان مجيداً للغة العربية والفارسية والصينية والعبرية مما أهله لأن يشغل وظيفة كاتب في بلاط ملوك المغول الذين كانوا قد أسلموا حينها وأن يكون رفيقاً لهم في رحلاتهم خارج ممالكهم. كما أنه كان طبيباً بارعاً اختصه ملوك الدولة ووزراؤها بعلاجهم الشخصي. وقد مهر في شؤون الاقتصاد وجمع الأموال فتولى شؤون المالية لدى سلاطين المغول وبرع أيضاً في الإدارة فتولى شؤون الوزارة وإدارة الحكم. فضلاً عن عشرات الكتب التي خلفها في الطب والطبيعة والتاريخ والعلوم الدينية واللغوية.

أثار نبوغه وقربه من الملوك والسلاطين المغول حفيظة منافسيه من الوزراء. فكادوا له مراراً وتكراراً وكان ينجو في كل مرة بما عرف عنه من حسن الخلق وأمانة العمل واستقامة السيرة. وظل رشيد الدين يتمتع بمواقع مرموقة عند سلاطين المغول ويحظى بثقتهم الكبيرة ويتقلد المناصب العديدة سنوات طويلة. إلى أن نجحت إحدى المكائد في إقناع السلطان «أبي سعيد» بأن رشيد الدين الهمذاني هو من قتل والده السلطان السابق بسقيه السم في آخر أيام مرضه. واستناداً إلى الروايات التاريخية فإن السلطان قبض عليه وعلى ابنه وقتل ابنه ذو الستة عشر عاماً أمام عينيه، ثم أمر السياف بشقه نصفين. وحملت رأسه وطيف بها في المدن ونادى المنادي «هذا اليهودي الذي بدل كلام الله»!!

وفي زمن اشتدت فيه العصبيات والفتن في دولة متعددة الهويات بحكم الطابع الاستعماري والتوسعي لها، كانت تثار كثير من الملابسات حول أصول رشيد الدين اليهودية واعتناقه الإسلام كذباً، وتآمره على الدولة من باب يهوديته. والمقولات التي ناقشت هذا الموضوع كانت تسبر أغوار نواياه وتفند أسباب إجادته للعبرية، وسبب اهتمامه بالتأليف في الأديان واللغات والطب والتاريخ. وتروي بعض الحكايات أن القائمين على قتله منعوا دفنه في مقابر المسلمين وأمروا بدفنه في مقبرة اليهود باعتباره يهودياً «منافقاً». وحين تمكن بعض أهله وأقاربه من إثبات إسلامه وإسلام أسرته تاريخياً عمدوا إلى نقل جثمانه إلى مقابر المسلمين، إلا أن غرماءه أعادوا جثمانه ثانية إلى مقابر اليهود.

وفي عدن، واحدة من مدن النور في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وواحدة من أشرس معاقل الماركسية العربية في القرن الماضي. وفي زمن يوصف بأنه زمن «المابعد» لمختلف الظواهر الثقافية والحضارية من حداثة وعولمة. حدث في شهر مايو 2017 أن اقتحم متطرفون إحدى مقاهي الإنترنت وعمدوا إلى قتل شاب «يساري» ناشط اجتماعياً وثقافياً بوابل من الرصاص أمام أصدقائه بحجة أنه ملحد. ثم منعوا أسرته من الصلاة عليه ودفنه وإقامة العزاء في المدينة، مما اضطر أسرته لدفنه خارج المدينة. كما قبضوا على الذين ارتادوا منزل أسرته لمواساتها وعذبوهم بتهمة الإلحاد أيضاً. وقد حاول أصدقاء الشاب الناشط المغدور ومحبوه إثبات سلامة دينه بنشر صور له وهو يصلي في أحد المساجد. وهو برهان لا يكفي لدفع شبهة الإلحاد عنه إذ ربما كان «منافقاً».

الحكايتان تمثلان هيكلية سردية واحدة لحدثين مختلفين زماناً ومكاناً. والأخطر أنهما تمثلان بنية عقلية واحدة ونمطاً سلوكياً ثقافياً ثابتاً قابلاً للتكرار وفرض نفسه في أي محيط اجتماعي وفي أي لحظة تاريخية.