لا يمكن للإنسان الذي يرمي بالمنديل الورقي خارج سيارته في وسط الشارع أن يحب وطنه، ولا يمكن للمواطن الذي يقوم بتكسير الهواتف العامة واللوحات الإرشادية الخاصة بالمرور والحدائق العامة أن يخاف على وطنه الذي ينتمي إليه، فالمواطن يجب أن يتعامل مع وطنه كأمه التي أنجبته وعشقته وربته وحمته من كل الأضرار المحتملة، فالإنسان الذي يعتبر الوطن "فندقاً" لا يمكن أن يعرف له قيمة حتى ولو بعد حين. إن من أكبر مشاكلنا نحن العرب هو أننا نخلط بين الوطن الثابت والإنسان العابر، ولهذا فإننا ننتقم من الوطن لأن بعضنا على سبيل المثال لا يحب حكوماته. هذه الإشكالية الثقافية والفكرية أدت إلى أن يقوم العربي بتشويه وطنه والانتقام منه ظناً أنه ينتقم من حكومته أو ينتقدها بطريقته البدائية لكنه في الحقيقة يهدم وطنه!

انتبه الكاتب البريطاني "روبرت فيسك" لهذا الوضع العربي فكتب مقالاً جميلاً حول ضرورة التمييز بين الوطن والحكومة حيث قال في مقالة جميلة تحمل عنوان "لا تـخـلـط بين الـحـكـومـة والـوطـن" يخاطب فيها العرب: "أتعلمون لماذا بيوت العرب في غاية النظافة، بينما شوارعهم على النقيض من ذلك؟ السبب أن العرب يشعرون أنهم يملكون بيوتهم، لكنهم لا يشعرون أنهم يملكون أوطانهم.. هل فعلاً شوارعنا وسخة وعفنة لأننا نشعر أننا لا نملك أوطاننا؟ إذاً ما السبب؟ هذا يرجع إلى سببين، الأول: أننا نخلط بين مفهوم الوطن ومفهوم الحكومة، فنعتبرهما واحداً، وهذه مصيبة بحد ذاتها.. الحكومة هي إدارة سياسية لفترة قصيرة من عمر الوطن، ولا حكومة تبقى للأبد.. بينما الوطن هو التاريخ والجغرافيا، والتراب الذي ضم عظام الأجداد، والشجر الذي شرب عرقهم، هو الفكر والكتب والعادات والتقاليد.. لهذا من حق كل إنسان أن يحاسب الحكومة ولكن ليس من حقه أن يكره الوطن.. والمصيبة الأكبر من الخلط بين الحكومة والوطن هو أن نعتقد أننا ننتقم من الحكومة إذا أتلفنا الوطن.... وكأن الوطن للحكومة وليس لنا.. ما علاقة الحكومة بالشارع الذي أمشي فيه أنا وأنتَ، وبالجامعة التي يتعلم فيها ابني وابنك، وبالمستشفى التي تتعالج فيها زوجتي وزوجتك، الأشياء ليست ملك من يديرها وإنما ملك من يستخدمها.. نحن في الحقيقة ننتقم من الوطن وليس من الحكومة، الحكومات تعاقب بطريقة أخرى لو كنا نحب الوطن فعلاً. السبب الثاني: أن ثقافة الملكية العامة معدومة عندنا، حتى لنبدو أننا نعاني انفصاماً ما.. فالذي يحافظ على نظافة مرحاض بيته هو نفسه الذي يوسخ المرحاض العام، والذي يحافظ على الطاولة في البيت هو نفسه الذي يحفر اسمه على مقعد المدرسة والجامعة، والأب الذي يريد من ابنه أن يحافظ على النظام في البيت هو نفسه الذي يرفض أن يقف في الطابور بانتظار دوره، والأم التي لا ترضى أن تفوت ابنتها محاضرة واحدة هي نفسها التي تهرب من الدوام".

متى سنعي ضرورة حب الوطن بالطريقة التي يجب أن نحب بها أمنا وأبانا وأجدادنا وبقية أفراد عائلتنا الكريمة وذكرياتنا الجميلة ورائحة الشجر والنخيل وماء البحر والتراث المعتق بالجغرافيا والتاريخ؟ متى يجب علينا أن نقدس الوطن في كل الأحوال والظروف والتعقيدات السياسية وغيرها؟ فالإنسان بلا وطن صالح ونظيف ومريح وزاهر ومشرق مثل اليتيم الصغير الذي يحتاج إلى حضن يحميه من غوائل الدهر. سيدي العربي لا ترمي أوساخك في شوارع الوطن، ولا تكسر مصباحاً في طريق مظلم يضيء لبقية الشعب مشوارهم نحو المستقبل... إذا وصلت إلى هذه المرحلة فأنت "مواطن" وأرضك "وطن".