وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مادة اجتماعية وتجارية فحسب بل صارت أسلوباً ثقافياً في تعبير الفرد عن نفسه وعن رؤيته للمجتمع والآخر. وشيئاً فشيئاً بدأ يتلاشى مفهوم الافتراضية الذي ارتبط بشبكات التواصل الاجتماعي، وصارت تقترب تلك الشبكات مما يسمى بتلفزيون الواقع. وذلك حين تآلف الناس مع الكاميرا كما لم يتآلفوا معها من قبل، حين انفتحوا بحياتهم الاجتماعية والفكرية الخاصة على الفضاء الرحب واستبسطوا عمليات البث واستسهلوا مسألة أن يُخرجوا ما في عقولهم وقلوبهم للجمهور دون عمليات إعداد سيناريو ودون مونتاج والأخطر دون عمليات تجميل وإضافة مكياج لكثير من سلوكياتهم.

سأتطرق هنا إلى ثلاثة مقاطع فيلمية بثها أصحابها متجاوزين بذلك عرض سلوكياتهم الخاصة وتوجهاتهم التي قد يختلف معها الكثيرون، وهذا أمر طبيعي ومقبول، إلى المجاهرة بإيذاء الآخرين والإضرار النفسي والمعنوي بهم. الفيلم الأول كان لسيدة خليجية "كبست"، بكاميرا هاتفها المحمول، على حين خشوع مجموعة من الآسيويين يجثون على ركبهم وسط المياه في ساحل البحر ويمارسون ما يبدو أنه طقوس دينية ابتهالية. المرأة كانت تصرخ بأعلى صوتها وهي تزجرهم وتصرفهم عن المكان محتسبة ومتذمرة من تقصير الجهات الأمنية في تتبع ورصد مثل هذه الممارسات الكفرية في بلاد المسلمين. وكانت تعبر بالكاميرا على وجهها لتثبت هويتها.

كان منظر الآسيويين مؤلماً وهم يفكون خشوعهم مفزوعين ويفرون من الكاميرا خوفاً من تبعات انتشار صورهم. ولا أعرف، ونحن الشعوب التي تستورد العمالة من كل الأجناس والأديان، ما الضير في أن يتعبد العمال، الضعفاء الذين نجلبهم، ربهم في هدوء وفي مكان قصي لا يضرون فيه أحداً؟! وما العمل النبيل الذي أحرزته تلك المرأة وهي تحرمهم من حاجة روحية ونفسية في الاتصال بالرب وطلب عونه وبركته ورحمته؟!

فيلم آخر يصور فيه رجل يعمل في إحدى مكتبات القرطاسية امرأة يزعم أنها ساحرة. ولا يدري متابع الفيلم كيف كشف الرجل السحر. لكنه كان يصرخ إنها ساحرة وكافرة وسوف أفضحها وأكشفها أمام العالم كله. وكانت المرأة تتوسله وتحاول الركوع تحت قدميه ليتوقف عن التصوير وتتضرع إليه "زوجي سيطلقني"، ولكن كل توسلاتها لم تثنِ قسوة الرجل وجسارته في فضح الساحرة. وعلى افتراض أن المرأة ساحرة لماذا يفضحها هذا الرجل أمام من يعرفها ومن لا يعرفها؟ لماذا لم يغلق عليها باب المكتبة ويتصل بالجهات الأمنية ليقبضوا عليها متلبسة كما فعل هو؟!

في فيلم مضاد خرجت إحدى صديقات المرأة وبينت أنها ليست ساحرة وأنها قصدت المكتبة لتنسخ مصورات لدورة في علم الطاقة، لم تكن قد اطلعت عليها. وأن الرجل باغتها وأربكها بصراخه وإشهار الكاميرا في وجهها فجعلها تتوسله في أمر لا تعرف ما هو. وفي مقابلة تلفزيونية على إحدى الفضائيات للمرأة التي صارت حديث الناس بينت براءتها من السحر وقصدها المكتبة لتصوير مستنسخات علمية عادية جدا. وأن تصرف الرجل وبثه فيلما، انتشر على أوسع نطاق، يسيء لها ولسمعتها قد أدخلها وأسرتها في أزمة نفسية واجتماعية حادتين جداً، وأنها تعاني في أعماقها من انكسار هدم حياتها كلها ولا تظن أنها سوف تشفى منه..أبدا.

الفيلم الأخير تم تداوله مؤخراً في شهر رمضان الحالي. وتركز فيه كاميرا أحد الشباب، الذي لم يكشف هويته، على عامل آسيوي يجلس تحت ظل حائط ويتناول طعامه في نهار رمضان. ويبادر الشاب المصور بنهر العامل: أنت فاطر في رمضان؟! ثم يهوي ببضع لطمات قويات على خد العامل وعلى إحدى أذنيه وهو يواصل نهره: فاطر؟ فاطر؟ ونحن لا نعلم هنا: هل العامل مسلم في الأصل كي يوجه له هذا السؤال؟ ثم من ناحية فقهية.. هل فرض الله تعالى الصيام على هؤلاء العمال الفقراء الذين يعملون في شوارع الخليج العربي حيث تتجاوز درجة حرارة الصيف في رمضان خمسين درجة مئوية؟ أمام فقر ذلك العامل الآسيوي وقسوة ظروف عمله لا داعي للخوض في جدل فقهي عن أصل مقولة منع المجاهرة بالفطر في نهار رمضان تجنباً لجرح مشاعر الصائمين، فربما جرح العامل الآسيوي الفقير الجائع بعد مشقة عمل نصف نهار ملتهب في رمضان مشاعر ذلك الشاب المتحمس الصائم.

المصورون الأبطال الثلاثة وغيرهم كانوا فخورين بأعمالهم، وقصدوا خدمة المجتمع وتقديم دروس إيجابية في المبادرات الاجتماعية التي تغار على المجتمع والدين وتحميه، واستعملوا الكاميرا أداة لتوثيق إنجازاتهم، لكنهم أثناء اندفاعهم للتصوير ثم للبث لم يتوقفوا للحظات لتفنيد القيم التي تحملها أفلامهم، وهل تعبر عن مواقف شخصية ورؤى فردية أم أنها توجهات اجتماعية عامة ستلتحم مع توجهات المجتمع. والحمد لله ففي مقابل القليلين الذين خلقوا المبررات الأخلاقية لمثل هذه السلوكيات، فقد انهالت موجات من الرفض الاجتماعي لها وللقسوة والفجاجة الواضحة فيها، والتي أثبتت شجاعة غريبة في المجاهرة بالإساءة والتخويف والإضرار بالآخرين، دون خجل أو تردد أو إرفاق تبرير مقنع.