لم أحرم من أعز صديقة لي بوفاتها مؤخراً فقط، وإنما حرمنى موتها أيضاً من شخصية كانت تمثل لي صديقتي الغالية ورفيقة عمري كله. فاطمة عبدالكريم المناعي، التي كنت أعرفها وأتفاعل معها تدريجياً، منذ أن أصيبت بجلطة في المخ، خلال أقل من أربع سنوات.

ذهلت عندما سمعت بالخبر من أختها وأسرعت إليها في مستشفى حمد وفوجئت بها وأنا أتحدث معها وهي فرحة بأن الشعب المصري انقلب على حكم «الإخوان المسلمين»، وهي تقول «من هم الإخوان المسلمون؟»، قلت لها: أنت أول من قرأ عنهم في الإنترنت وأخبرتني عن تقلب وجوههم حسب مصالحهم وأنك تكرهينهم.

إلا أنني لم أكن أتصور أن صديقتي ستتدهور قدراتها العقلية بهذه السرعة، حتى أصبحت في أواخر أيامها لا تتذكر أحداثاً وقعت لها منذ خمس دقائق، زهدت في الحياة تدريجياً وتضاءلت شهيتها للطعام، وكانت عندما اتصل بها تردد دائماً أنها تشعر بالوهن وأنها ستموت.. وكنت أحاول رفع معنوياتها.

وفي خلال أقل من أربع سنوات، تدهورت صحة فاطمة - أعز صديقة عندي وأختي الروحية - تدهوراً أصبح صعباً عليها أن تقوم بمهام حياتها اليومية، وتوقفت عن التعامل مع الأجهزة الإلكترونية التي كانت تعشقها، وأول من استخدمها من صديقاتي.. بل كانت أول من بدأت تستخدم الإنترنت.. وكانت كلما ظهر في السوق جهاز إلكتروني جديد أسرعت إلى شرائه واستخدامه بذكاء عال كانت تتمتع به منذ أيام الدراسة.

وتدريجياً فقدت فاطمة - رحمها الله - القدرة على ربط الأحداث في المسلسلات التي تشاهدها والربط المنطقي في التفكير بكل ما تشاهده أو تقرؤه أو ما يمر عليها من أحداث، لكنها لم تنسَ وجوه أصدقائها وأهلها ولم تنسَ مواعيد صلواتها.

كان قلبي يحترق حزناً على صديقتي التي عشت معها أحلى سنوات شبابي، منذ أن تعرفت عليها في الصف الثاني الثانوي، اندمجنا مع بعضنا البعض والتقت أرواحنا في محبة نادرة في الحياة، حيث رافقت فاطمة حياتي كلها بأحزانها وأفراحها وكانت دائماً الصديقة المخلصة إلى أقصى الحدود، بمنطقها القوي وقدرتها الكبيرة على التعبير عن رأيها ومشاعرها العاطفية ونصائحها الصادقة المحبة.. كنا نتحدث يومياً ساعة كاملة، تتسارع عقاربها كأنها خمس دقائق فقط بالنسبة لنا.. وكانت لا تريد أن يحدثها أحد هاتفياً قبل نومها لأنها كانت تعاني من الأرق إلا أنا، لأنها كانت ترتاح إلى أحاديثي معها، حتى مقالاتي كنت أقرؤها لها لتبدي آراءها حولها.

وكانت دائماً ما تصف أسلوبي بالسهل الممتنع، وتعجب بأفكاري التي أطرحها في هذه المقالات لصالح المواطنين وتقدم المجتمع.

كم وكم تحدثنا وخرجنا معاً وسافرنا إلى دول كثيرة معاً وكنت أجد الراحة الكاملة معها.

ويوماً بعد يوم فقدت صديقتي التي أعرفها أكثر وأكثر، وأعود إلى البيت لأبكي كثيراً نتيجة حرماني منها ومن أحاديثنا السابقة.

وظلت نفسي مغلفة بالحزن وأنا أرى قدراتها العقلية تتدهور مع كل مرة أقابلها.. ومع تدهور حالتها كانت نظراتها تزداد حزناً وجموداً ومشاعرها تبدو أكثر زهداً في الحياة.

وقبل أن ترحل عنا فجأة زهدت في الطعام كلياً، ربما كانت ترفض نفسياً حياتها التي تزداد مهانة لفقدانها ذاكرتها التي ستعرضها للمهانة الإنسانية، وعدم قدرتها على أداء احتياجاتها اليومية بنفسها، وهي صاحبة الشخصية القوية المثقفة ذات الكبرياء العالي في حياتها كلها.

لقد اكتأبت فاطمة وكرهت الحياة مع مرضها المؤلم، وفضلت ألا تأكل لكي ترحل عن الدنيا إلى عالم الروح لتعود كما كانت سليمة العقل وفي صحة وعافية بصحبة والديها وأحبائها.

رحلت إلى الأبد صديقتي وتوأم روحي فاطمة، وبكيت كثيراً لفقدانها وذهبت إليها في المشرحة لأودعها الوداع الأخير، وأقبلها قبل أن تغيب عن عيني إلى الأبد.

تأملت وجهها بعد الموت وأنا أبكي كثيراً وأقبلها، كان السلام مرسوماً على وجهها الأبيض المنير، إذ كثيراً ما صلت وتعبدت لأنها كانت تحرص كثيراً على إرضاء الله في جميع تصرفاتها اليومية.

رحم الله رفيقة عمري الغالية فاطمة المناعي برحمته وأسكنها فسيح جناته.