كتبت مقالات عديدة في الشأن الإداري، وأخرى عديدة تتعلق بالفساد في هذا الجانب، والذي بدوره يؤدي لفساد مالي، هو بحد ذاته جريمة ترتكب بحق الوطن، والأدهى إن كان يتم بعلم من منح الثقة في تسيير أمور هذا القطاع أو ذاك.

أعترف بأن سلسلة هذه المقالات لم أكتبها عبثاً، ولا تنظيراً عاماً بشأن ما يجب أن يكون عليه الوضع، من منطلق المثاليات، بل كل مقال كان معنياً بقضية حقيقية ومن واقع معاش تشهده عديد من قطاعاتنا.

والله نتطرق لهذه الأمور بألم وحرقة، سببها أن قيادتنا تحرص وتشدد على محاربة الفساد الإداري والمالي، وتمضي لتوجه بوضع خط للتبليغ عن الفساد، بينما هناك مسؤولون غارقون فيه حتى النخاع، وحولوا قطاعاتهم لـ«عزبة» خاصة، يتصرفون في مقدراتها الإدارية والمالية بحسب أهوائهم.

إن كان التعويل في ردع هؤلاء على تقارير الرقابة المالية والإدارية، فاعلموا أن هذه التقارير لم تعد تهم هؤلاء المسؤولين المستهترين بسبب آلية التعامل معها، سواء من جانب الحكومة التي عليها إزالة الفاسد وجعله عبرة لغيره وإلزامه برد ما تطاول عليه من مال عام أو استهتر به، أو من جانب مجلس النواب الذي بات «يجعجع» على الفاضي في كل عام فترة صدور التقرير، لكنه عاجز عن تشكيل لجان تحقيق واستجواب توصله لطرح الثقة، خاصة وأن الآلية باتت خرافية ويستحيل تحققها، فالنواب وللأسف أثبتوا أنه لا يمكنهم محاسبة «فراش» مكتب وزير، فما بالكم بالوزير؟!

كثيرة هي الحالات التي حاولت إيصالها لعلم صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان من خلال المسؤولين والعاملين في ديوان سموه، إيماناً بأن الأمير الوالد أول من يتصدى للخطأ ولا يقبل به، وهو الذي يطالبنا دائماً بأن نكتب وننتقد، نكشف الأخطاء، لنساعده ونساعد الحكومة في عملية الإصلاح.

ولو تأتت فرصة مناسبة للاجتماع بسموه في جلسة تخصص لإيصال عديد من المعلومات والحالات، فإن لدي الكثير والكثير من حالات لتجاوزات مسؤولين لن تقبل بها قيادتنا وحكومتنا.

مبعث هذا الحديث هي توجيهات الأمير خليفة في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة بشأن تشديد الرقابة على المصروفات لمنع الهدر.

التوجيه في صيغته الشاملة يقول: «وجه سموه بتشديد الرقابة على المال العام وضبط المصروفات الحكومية وترتيبها حسب الأولوية، والقضاء على أية أنماط ضارة من الإنفاق الاستهلاكي ومنع الهدر، وضمان حسن استخدام الموارد، وتعزيز الجوانب الإشرافية والرقابية لخلق بيئة العمل الأفضل وتسريع العمل في إنجاز المشاريع الحكومية».

أولاً، نقول إننا نأمل التزام جميع الوزراء والمسؤولين بتوجيهات سموه، بالأخص أصحاب الضمائر الحية التي تعمل لأجل الوطن، ولكن التطلع هنا لأولئك الذين وصفناهم أعلاه بأنهم حولوا قطاعاتهم لأملاك خاصة، إذ عليهم تصحيح المسارات بسرعة، إذ إن لم يتم ذلك، فهذه مخالفة للتوجيهات، ومكابرة صريحة.

الأنماط الضارة للإنفاق الاستهلاكي والهدر موجودة، وإلا لما ذكرت في مجلس الوزراء، ولما وثقت حالات عديدة منها تقارير الرقابة المالية والإدارية، وتأتي على رأسها ما يقع ضمن بند «المشاركات الخارجية وسفرات المسؤولين»، هذا البند وحده لو دققت الحكومة فيه لوجدت بلاوي وكوارث، إذ هناك من المسؤولين من «لف» الدنيا بـ«سالفة» أو «غير سالفة»، وتبقت له زيارة الكواكب في نظامنا الشمسي، ولو تم تمحيص أغلب السفرات والاستفادة العائدة منها، لما خرجت عن كونها «سياحة» لاستقاء خبرات وتجارب الدول الأخرى، وإلا فإن الدولة أهدرت في المقابل أموالاً دون عائد منها، طبعاً ناهيكم عن «أطقم المرافقة» لبعض المسؤولين، والذين كثير منهم لا علاقة لهم بالمهمة الموكلة لهم من ناحية التخصص.

وحينما يؤكد مجلس الوزراء على تحسين الجوانب الإشرافية، فإننا نتحدث عن حالات فيها من الفساد الإداري ما يندى له الجبين، كيف يظلم موظفون معينون، ويعز ويعلو شأن آخرين فقط لأنهم من جوقة المسؤولين، وكيف في بعض القطاعات كلمة سكرتير أو مدير مكتب أقوى وأعلى من كلمة وكيل معين بمرسوم ملكي أو مدير معين بقرار من رئيس الوزراء، وكيف أن بعض القطاعات تتحول لبيئة خصبة للتكتلات المحسوبة على المسؤول، وبيئة طاردة لمن يتم وضعه في خانة الاستهداف. كلها حالات لا تقبل بها الدولة والحكومة التي أحد شعاراتها وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وتعزيز مبادئ الحوكمة والإدارة الصحيحة.

حل مشكلة الهدر المالي، وتصحيح مسارات الإدارة المعوقة يبدأ من الأعلى للأسفل، من المسؤول الذي عليه مسؤولية إصلاح قطاعه، لا أن يكون هو المصدر الأول للانفلات والفوضى الإدارية وفوقها الهدر في المال العام.

صاحب السمو، لن تجدوا أصدق من الصحافة المخلصة التي تنقل لكم دون مبالغة أو تزوير صوت المواطن المخلص لبلاده وقيادته والمتضرر، إذ لا مسؤول لدينا للأسف سيأتي لكم وسيعترف بأخطائه وبأن هناك أموراً محسوبة عليه في طريقة إدارته للقوى العاملة أو حتى الموارد المالية. بعضهم يخشى اهتزاز صورته أمامكم، وبعضهم «الكرسي» عزيز عليه جداً.