كباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وقارئ للتاريخ المصري القديم والحديث، يمكنني القول باطمئنان، إن ثمة ثورتين في تاريخ مصر الحديث أي خلال القرنين التاسع عشر والعشرين هما ثورتان لهما أثرهما الكبير في التطور السياسي المصري بإنجازاته وإخفاقاته، الأولى، الثورة العرابية، بقيادة أحمد عرابي الضابط المصري الذي وصل لمنصب رفيع بفضل التغيرات التي جرت منذ تولي محمد علي باشا السلطة بإرادة الشعب المصري تحدياً للسلطة العثمانية المحتلة، التي كانت تحكم مصر منذ الغزو العثماني لها عام 1517، وأهم إصلاحات محمد علي هي إعادة بناء الجيش من أبناء مصر من الفلاحين والعمال والطبقة المتوسطة وترقيتهم حتى وصلوا للمناصب العليا في القوات المسلحة رغم ما فرضه الاستعمار الإنجليزي علي مصر وضغطه عليها بالتعاون مع المحتل العثماني بفرض فرمان 1840، الذي خفض عدد الجيش وأغلق المصانع العسكرية وغيرها. أحمد عرابي بدأ ثورته بالدفاع عن مصالح أبناء مصر في الجيش ضد سيطرة الشراكسة وغيرهم ممن وفدوا إلى مصر في عصور ضعفها. ثم تطورت الثورة ليواجه أحمد عرابي علي رأس قواته الخديوي توفيق الذي ناور وقدم تنازلات ولكنه لجأ سراً للإنجليز لمساعدته ضد ثورة الشعب مما أدى إلى الاحتلال الانجليزي الذي استمر أكثر من 70 عاماً. ثورة عرابي لم تكن ثورة الجيش وإنما جيش مصر من أبنائها كان هو الطليعة والتفت حوله جماهير الشعب والنخبة المثقفة ورجال الدين والمفكرون ممن كانوا يؤمنون بالوطن.

أما الثورة الثانية فكانت ثورة 23 يوليو 1952 التي قادها الكولونيل جمال عبد الناصر والذي وضع بذرتها مع زملائه من الضباط الأحرار، وقادها اللواء محمد نجيب، في اللحظات الأخيرة، باختيار الضباط الأحرار له، بحكم درجته الرفيعة وأخلاقه ووطنيته ولكن توجهاته السياسية والفكرية اختلفت عن الباقين.

وقد غيرت تلك الثورة في أوضاع مصر الداخلية والخارجية، فحققت الجلاء ودافعت عن حق السودان في تقرير مصيره، رغم أن النظام السابق على الثورة كان يرفض ذلك. وأطلقت الإصلاح الزراعي وإصلاح التعليم ثم مجانيته والثورة الصناعية والإصلاح الاقتصادي وشيدت السد العالي الذي حمى مصر من الفيضانات وضاعف إنتاج الكهرباء كما رفعت شعار الانتماء العربي لمصر وهو انتماء عميق الجذور ولكن إطلاق ثورة يوليو له عززه. وبالطبع مثل تلك الثورات لن تحقق كل أهدافها فتكالبت ضدها قوى البغي والعدوان ممثلة في العدوان الثلاثي، إثر تأميم قناة السويس عام 1956، ولكن قوى الحق والعدالة تعود أحياناً للسياسة الدولية فوقفت الدول العربية التي كانت مستقلة والشعوب العربية وشعوب البلاد النامية مساندة لمصر ضد العدوان كما وقفت الصين وروسيا ووقف الجنرال إيزنهاور الرئيس الأمريكي وضغط على إسرائيل للانسحاب وتعاون مع قوى العدالة الدولية في مجلس الأمن لوقف العدوان وإجباره علي الانسحاب. ولكن لكل فارس كبوة ولكل زعيم هفوة، فكانت هفوات عبد الناصر كبيرة مثل إنجازاته، في حرب 1976 والتي أدت للهزيمة النكراء، التي أضاعت كثيراً من الإنجازات. ولكن الجيش والشعب المصري سرعان ما استعاد قوته وبلور إرادته في حرب أكتوبر 1973 التي انطلقت في العاشر من رمضان المبارك، وحققت النصر. لكن أهم ثلاث نتائج لها كانت، الأولى، استعادة الروح لمصر وجيشها وثقته بنفسه، والثانية، استعادة الروح للأمة العربية، وتكاتف أبناء العروبة الأصيلة وفي مقدمتهم العاهل السعودي، المغفور له، الملك فيصل بن عبد العزيز، باستخدام النفط سلاحاً في المعركة وكتب بعض المحللين المحايدين أن العرب باستخدام سلاح النفط وبالقوات المسلحة المصرية والسورية أصبحوا القوة السادسة في العالم بعد الدول الخمس الكبري. والنتيجة الإيجابية الثالثة، التي في منتهي الأهمية، هي استعادة العقلانية للقيادة المصرية، بعيداً عن الاندفاعات السياسية، دون قراءة صحيحة وواقعية للسياسة الدولية، ومن هنا انطلقت عملية السلام، التي أعادت لمصر تراب سيناء، وإن كان علي مراحل. ولكنها أكدت أن الحرب والسلام متكاملان لتحقيق الهدف، فاستردت مصر سيناء، وخاب المعارضون حتى هذه اللحظة، ويعلم الجميع أين ذهبت شعاراتهم بل ودولهم وأحزابهم الرافضة والسائرة في ركاب الأجنبي، وهم بوعي أو بغير وعي، من المتاجرين بالأوطان من أجل السلطة وليسوا حكاماً لشعوبهم. والفكر الثوري يؤكد على أن الشعارات غير الواقعية هي من الثورة المضادة. ولو اتبع لينين تروتسكي لضاعت الثورة ولو اتبع الفرنسيون روبسبير أو نابليون لضاعت الثورة الفرنسية. وعندما اتبع الإنجليز كرومويل تطورت بريطانيا عبر الإصلاح التدريجي. وللحديث بقية.