لست ممن ينزعون إلى القول بتخبطية السياسة الإقليمية والخارجية، فقد أثبتت السياسة الخليجية في كثير من الظروف جدواها وقدرتها على تخطى أزمات ثقال، ولكني أيضاً لست ممن يسبغ صفة القداسة على كل فعل لمجرد نسبته لفاعله، بينما يخفق في كثير من الأحيان في مواكبة المرحلة وتغليب المصالح بعيدة المدى على المصالح الآنية ليست ذات القيمة. لست ممن يؤمن أيضاً بأن تمارس السياسة دورها كفتاة لعوب يقتادها كل ما يبرق أمامها مزيناً لها المستقبل بأضواء وهمية، فتلهث خلف تحقيق غاياتها دون مراعاة لضوابط المجتمع وهويته وثقافته.

ولكي لا تقع الدول فريسة ذلك البريق، أو تنسى أهدافها الحقيقية منخرطة في تحالفات تضرها أكثر مما تنفعها، أو تتخذ سياسات تسؤها فيما بعد، كان من الضرورة أن تعمل على وضع رؤية واضحة المعالم وتعمل على الإعداد لتنفيذها وفق خطط استراتيجية شاملة تنبثق من كل واحدة منها خطط أكثر تخصصاً ودقة. ولعل من أهم ما كنا نفتقر إليه في وضع رؤانا وأهدافنا المستقبلية في بعض أوقات مضت، أننا لم نكن على إلمام بما يكفي بما لدينا من موارد وإمكانيات، وكيف يمكننا استثمارها على أكمل وجه، قبل دراسة ضرورات فتح آفاق إمكانيات جديدة غير متوفرة منذ البداية، فندخل في سباق تجميع الموارد أكثر من تشغيلها.

ومن أجل أن نضع سياسة متكاملة بهذا الحجم على مستوى الدولة، للسياسة الداخلية والخارجية على السواء، والتي يجب أن تكونا منبثقتين من نفس الرؤية بداية، أقترح إنشاء «الديوان الاستراتيجي»، لتوكل له مهمة بناء الخطط المتكاملة وفق رؤية شاملة للبلد وأهميته، بحيث يمارس التخطيط كعمل أساسي وبتفرغ تام، إلى جانب ممارسته دوره الرقابي على تنفيذ تلك الخطط ومتابعتها، ما يتيح له مزيداً من الفرص للتركيز والإيمان ليس بدوره وحسب، وإنما بالخطط التي يعمل على إعدادها، والتي تعدها بطبيعة الحال أغلب المؤسسات في بداية كل عام لذر الرماد في العيون، بينما ما يمارس على أرض الواقع بعيد كل البعد عمّا ورد في الخطة.

ويقترح في المرحلة التأسيسية للديوان، كوادر ذات خبرة وكفاءة عاليتين، من كافة جهات الدولة، وإخضاعهم لبرامج تأهيلية إضافية مكثفة، يستقطب لتنفيذها أهم المدربين والأكاديميين الدوليين في مجالي الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، والتخطيط الاستراتيجي. هذا كبداية، ثم استحداث تخصصات العلوم الاستراتيجية والجيوستراتيجية بما يتواءم مع المجالات الرئيسة في هذا العلم، والتي من شأنها أن تخدم نشاط الديوان الاستراتيجي وترفد بقية المؤسسات بتنفيذيين على وعي وفهم ودراية بمعنى المجال وأهمية التقيد بخططه، وكيفية رفع الخطط التصحيحية للاستراتيجيات بما يتواءم مع طبيعة العمل على أرض الواقع. ومن أجل تحقيق ذلك على مجالس التعليم العالي الخليجية، البحث عن التعليم النوعي الذي تسمح لممارسته بالجامعات بمناهج تواكب التطور والتقدم العلمي العالمي، فلسنا بحاجة لمزيد من الجامعات الربحية أو «أكشاك بيع الشهادات» تحت غطاء برامج التعليم العالي.

والجانب الأكثر أهمية أن هناك جهات فاعلة تعمل حالياً وبكفاءة على رفد صانع القرار في كافة المجالات بالدراسات اللازمة لذلك، فكيف لو أن دولنا الخليجية أقامت روابطها الشبكية بين كل من الديوان المقترح وبين كافة الجامعات المحلية، وبعض أبرز الجامعات الإقليمية، وكذلك مع مراكز الأبحاث المحلية والخارجية؛ لتكون تلك الجهات رافداً لها عند وضع الأفكار والرؤى والخطط والآليات، من خلال ما تقدمه أبحاث الجامعات والمراكز الفكرية والاستراتيجية من إضاءات وتوصيات ورؤى.

* اختلاج النبض:

كثير من الجهود الضائعة يمكن إعادة توجيهها لمسارها الصحيح، وكثير من الموارد تهدر في غير محلها، وتستنزف الكفاءات دون تحقيق النتائج المرجوة، كل ما نحتاج إليه أن تكون خطواتنا لتنميتنا من الداخل وبناء قوتنا للخارج، مبنية بالمسطرة والورقة والقلم.