بعيداً عن تقديس الرموز وعبادة الأصنام، وهي واحدة من إشكاليات العقل العربي التي أعاقت خروجه من صندوق النماذج الجاهزة، فإن التجربة الناصرية هي واحدة من التجارب العربية المفصلية التي ينبغي أن توضع في سياقها التاريخي وتدرس بموضوعية بغية الاستفادة من نتائجها وليس الاختصام حولها كما يجري في كل مناسبة ناصرية.

ولا شك في أن التجربة الناصرية كغيرها من التجارب التاريخية لها إنجازاتها وإخفاقاتها. غير أن غياب تصورنا للمؤامرة الكبرى ضد العرب التي عرقلت مسار نهضتهم يشوه بعض فهمنا لنتائج هذه التجربة. علينا أن نستحضر دائماً أن من حارب التجربة الناصرية وزرع لها العوائق في كل محطاتها هي إسرائيل والقوى الغربية الكبرى، والكثير من كيانات الرجعية داخل الوطن العربي. وليس هذا من باب التبرير لإخفاقات بعض مجالات التجربة الناصرية. وليس، كذلك، جزءاً من السذاجة العربية التي «توسوس»، بنظرية المؤامرة ولكنه استنباط للقوى الحالية التي، وبالدرجة الأولى، أشعلت ما سمي «ربيعا عربياً»، ثم أكملت المخطط لتفتت الوطن العربي على أسس عرقية وطائفية. أليس هذا ما يحدث اليوم؟!!!

ما يميز التجربة الناصرية في اتجاهها الإيجابي هو مجموعة من المبادئ عبرت عنها بصدق ونجحت في ترسيخها في الوجدان العربي. القضية الأولى، هي قضية الاستقلال العربي. سواء الاستقلال عن الاستعمار العسكري والسياسي المباشرين، أو الاستقلال الذاتي عن هيمنة القوى الأجنبية وارتهان القرار السياسي العربي للخارج. وقد دعم جمال عبدالناصر الدول العربية التي كانت مستعمرة مثل الجزائر وعدن وغيرها من دول المحيط الإفريقي في سبيل تحقيق استقلالها. كما عمل عبدالناصر على تقوية الكيانات العربية في كيان واحد واجه قوى الهيمنة الغربية. وكان تأسيس حركة عدم الانحياز بالتعاضد مع بعض الدول مثل الهند ويوغسلافيا أحد الأدوات الإجرائية لتحييد الوطن العربي عن الاستقطابات الإقليمية وعن التسخير السياسي والاقتصادي لخدمة أهداف الدول الأخرى.

والقضية الثانية، هي تميز التجربة الناصرية بموقفها من كيان إسرائيل. فلم يتعامل عبدالناصر وهو المحاصر بحروب متعددة من أمريكا وفرنسا وبريطانيا ومن عداء داخلي يمثل أحد أطرافه حركة الإخوان، لم يتعامل مع إسرائيل باعتبارها أمراً واقعاً وعلى العرب التفاهم أو التأقلم معه وإيجاد حلول وسطى. بل تعامل معها باعتبارها كياناً مستعمراً وغاصباً لحقوق أحد الشعوب العربية. ولا حل للقضية الفلسطينية سوى طرد الكيان الصهيوني وتطهير الأرض المحتلة كلها منه وعودة جميع الفلسطينيين إلى كافة قراهم وبلداتهم التي انتزعت منهم. وكانت الحروب التي تتهم بأنها أنهكت مصر وأدت إلى النكسة هي حروب ضد الكيان الصهيوني، استقطبت المتطوعين العرب من كل الوطن العربي. وليست حروباً عبثية ضد أحد الجيران من الدول العربية أو غير العربية، وليست حرباً لخلاف حدودي أو اقتصادي. وتجدر الإشارة إلى أن حرب 1973 قد وضع خططها وأسسها عبدالناصر. وهي الحرب التي وضع الصهاينة سياساتهم لتكون الحرب العربية «الأخيرة»، ضد إسرائيل.

القضية الثالثة وهي واحدة من أعقد القضايا التي تواجه الأمة العربية سابقاً وحاضراً وهي قضية عدالة توزيع الثروة. فالنظام الإقطاعي في عهد الملكية المصرية كان سمة تجاوزت آثارها الاقتصادية إلى الأحوال الاجتماعية. وكان قرار التأميم، برغم الإشكالية التي تعتريه، قراراً يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الرأسمالية والطبقية. وهو القرار الذي ساهم في ازدهار القطاع العام وافتتاح المصانع وتوسع الرقعة الزراعية. وكان تفكيك القطاع العام وخصخصته أهم الإجراءات التي اتخذت لتفكيك التجربة الناصرية. وما تعانيه مصر حالياً من تعطل استثمار ثرواتها الطبيعية والبشرية في الزراعة والصناعة ليس إلا نتيجة طبيعية للانقلاب الاقتصادي الذي أعاد الرأسمالية المتوحشة إلى مصر. وأوصل رجال الأعمال، حالياً، إلى التحكم في المسار السياسي. وهو وضع سائد في أغلب الدول العربية.

ما يعانيه الوطن العربي اليوم من انفراط العقد العربي وتحلل الكيانات العربية الجامعة له مثل الجامعة العربية والمجالس الفرعية الأخرى، وما يعانيه الوطن العربي اليوم من تبديد داخلي وخارجي للثروات وحصرها في أيدي أفراد معدودين على أصابع اليدين. وليست الهيمنة الغربية وتمكنها من إدارة القرار العربي وسياسياته في اتجاه مصالحها ونجاحها في استغلال العرب في حروب بالوكالة لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وليست النهضة الإسرائيلية وتحول إسرائيل إلى دولة شرعية قوية ومؤثرة بسمات ديمقراطية وصاحبة اقتصاد ضخم يتفوق على كل الدول العربية. وليست الصراعات والحروب التي تخوضها بعض الدول والكيانات العربية، إما بالوكالة، أو على أسس طائفية وعرقية. وهي الحروب التي صارت تهدد الدولة القطرية وتلوح بمشاريع تقسيم متعددة لكل دول الوطن العربي. ليس كل ذلك إلا دليل على أن فلسفة ثورة يوليو وفلسفة الاتجاه الناصري كانت فلسفة عروبية ناضجة تمكنت من تشخيص سمات الواقع العربي والأخطار الكبرى المحدقة به. وفيها استشراف مسارات فكرية وسياسية تحقق الأمن الاقتصادي والسياسي والقومي العربي.

ليس هذا الطرح دعوة لإحياء الناصرية. فالناصرية كانت ابنة عصرها ونتاج واقعها. بل هي دعوة لإعمال الفكر. فاليوم نحن بصدد واقع أكثر سوءاً من حالة الاستعمار التي نشأت الناصرية لمقاومتها. وهي دعوة للاستفادة من الدرس التاريخي الناصري. وللمقارنة بين أطروحاته وحقيقة ما آلت إليه الأمة. والعمل على بناء نموذج فكري جديد لمنهج سياسي يعيد لهذه الأمة كرامتها وقوتها وتماسكها.