في زيارتي الأخيرة لإحدى الدول العربية، استوقفتني ظاهرة أطفال الشوارع، التي صارت ظاهرة طبيعة، لا تستدعي التوقف عندها إلا من باب الانزعاج. ففي مقهى شعبي شهير، وفي ساعة متأخرة من الليل قفزت أمامي طفلة جميلة وجريئة تبدو في الثامنة من عمرها. تسولت بعض المال متمايلة ومتوسلة بأرجوزة شعبية تحتوى ألفاظ غزل «شوارعية». ولشدة صدمتي من الألفاظ التي تسولت بها طفلة في عمرها وبـ «جمالها» طلبت منها أن تعيد الأرجوزة ثلاث مرات. ثم سألتها: هل تذهبين للمدرسة. فأجابت: نحن الفقراء لا نملك المال لنذهب للمدارس. أنا أعمل من السادسة مساء حتى الثالثة فجراً. فمتى أذهب للمدرسة؟!

هؤلاء الأطفال يعيشون حياة مرعبة. ينفلتون بين السيارات ويتسللون بين المقاهي والمحلات الشعبية، وينخرطون في الزحام بين فئات مختلفة من البشر. شاهدت البعض يرمي لهم بعض المال تجنباً للإزعاج. والبعض يضربهم. وآخرون يتحرشون بهم. بعض الأطفال يمتازون بجمال ملفت، ويقضون ساعات الليل الطويلة يتسولون في أحياء فقيرة لا تخلو من اللصوص ومتعاطي المخدرات، وتجار المحرمات المتعددة. فأي طفولة يعيشون؟ وأي ذاكرة مشوهة سوف تشكل شخصياتهم؟ وأي طموح مستقبلي يحلمون به؟

الإحصاءات الحديثة تنبئ بكارثة تنموية وإنسانية خطيرة في الوطن العربي. فبعد مرحلة الثمانينات التي حققت جميع الدول العربية فيها تقدما كبيرا في محاربة الأمية والكوليرا وشلل الأطفال. ها نحن في القرن الحادي والعشرين نعيش انتكاسة تاريخية للطفولة العربية حيث سينشأ ملايين الأطفال العرب دون تعليم ودون مسكن ودون رعاية صحية طبيعية. فأي مستقبل مرعب ينتظر الوطن العربي؟

أطفال الشوارع ظاهرة تشيع في الدول العربية الفقيرة «المستقرة» نسبياً. بينما الحال أشد سوءاً في الدول العربية التي تشهد أزمات سياسية أو حروباً. الحال السيء للأطفال يتجاوز حرمانهم من التعليم والصحة والغذاء وتشردهم وضياعهم عن أهلهم وذويهم، ويصل إلى تجنيدهم في الحروب، وقتلهم لاستغلالهم في تصوير الأفلام الدعائية بين الفئات المتقاتلة. أو وقوعهم بأعداد كبيرة في قبضة عصابات المتاجرة بالبشر لغرض الدعارة أو تجارة الأعضاء.

الملايين من أطفال العرب المحرومين من الخدمات الإنسانية التي وفرتها حضارة القرن الحادي والعشرين، والناشئين في ظروف مشوهة هم قنبلة مستقبلية موقوتة، وذخيرة أزمات وحروب مستقبلية قُرر للوطن العربي ألا يخرج منها. إذ ربما يجري، مستقبلاً، استغلال هذه الجموع الغفيرة من عشرات الملايين من المواطنين المحرومين والمأزومين والناقمين والجاهلين لإثارة انتفاضات وشن حروب انتقامية ضد المجتمع الذي ضيعهم ولم ينصفهم. فإلى أين نحن ذاهبون؟!