لقد لفت نظري المقال الشجاع للكاتبة نجوى عبداللطيف جناحي المنشور في جريدة «الوطن» بتاريخ 30 سبتمبر 2017 حول طبيعة عمل ومؤهلات المحلل السياسي. وأنا إذ أتفق مع رؤية الكاتبة بالنسبة لعمل المحلل السياسي فإنني أود أن أضيف مجموعة من الأعمال كانت دائماً تزعجني لأن بعض المدعين بها لا يمتون إليها بصلة ولم يدرسوا معاني الكلمات والمصطلحات ولا طبيعة المهمة المنوطة بهم أو التي يدعونها. وهذه المعاني ذات أهمية بالغة وتحدث عنها العلماء والفلاسفة منذ قديم الزمن، وأشير لمدرستين فكريتين، الأولى، مدرسة الفيلسوف الصيني كونفوشيوس في القرن السادس قبل الميلاد»551-479 ق.م»، حيث جعل أول مهام الدولة تصحيح الأسماء وتدقيق المصطلحات، وفي كتاباته وأفكاره تحتل هذه المسألة مكانة بارزة فهو يرى أن استخدام مصطلحات في غير موضوعها يؤدي للفساد ومن هنا كانت هي أولى حملات كونفوشيوس لإصلاح المجتمع الصيني.

والثانية هي المدرسة الأوروبية وخاصة في ألمانيا والنمسا في بداية القرن العشرين باسم الوضعية المنطقية وأبرز المعبرين عنها في الفلسفة العربية كان زكي نجيب محمود أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، عندما كانت جامعة القاهرة هي الجامعة العربية الوحيدة الحديثة والمعبرة عن التقدم العلمي والفكري، وكان الأساتذة هم كذلك بحق ويشار إليهم بالبنان. ودعا زكي نجيب محمود لتصحيح الأسماء والمصطلحات باعتبارها الوسيلة الرئيسة لتحقيق التقدم.

ولكن في زماننا الحاضر اختلطت الأمور وأصبح كل من قرأ أو ربما لم يقرأ كتاباً في علوم السياسة يفتي في أدق شؤون السياسة والدولة ويقدم وصفة للإصلاح، ويطلق على نفسه صفة ناشط سياسي أو خبير سياسي أو محلل سياسي وحتى محلل استراتيجي، ومن لم يدرس القانون بشتى مجالاته ولم يتابع تطوراته الحديثة يفتي في مجال حقوق الإنسان ويطلق على نفسه ناشطاً أو خبيراً حقوقياً أو رئيساً لجمعية حقوقية تقيم الدول وأوضاعها وحكوماتها ونفس الشيء في مجال الإعلام والدبلوماسية. والأكثر إثارة للفوضى واختلاط المفاهيم هم الذين يفتون في الفضائيات في أمور الدين ومنهم من لم يحصلوا على شهادة جامعية أو هم متخصصون في غير مجال الدين مثل الهندسة أو الزراعة أو علوم الحيوان ونحو ذلك، ويقودون ما يسمى بـ»الحركات الإسلامية» التي أساءت أبلغ إساءة للإسلام والمسلمين، ومن هنا اختلط الحابل بالنابل وضاعت بوصلة العلوم وبوصلة العلم.

لحسن الحظ هناك مهن قليلة لم يتم الافتئات عليها حتى الآن، وهي مهن الأمن والعسكرية والمحاماة والقضاء. فلا يستطيع أحد أن يدعي لقباً عسكرياً أو شرطياً أو محامياً أو قاضياً لأنه سيتعرض للعقاب الشديد. ونتساءل لماذا يحدث هذا الخلط والتشويه لعلوم ومهام بالغة الأهمية والخطورة ويتوقف عليها تقدم الدول أو انهيارها. ولذلك قال العلماء القدامى إن من علامات يوم القيامة أنه إذا أسندت الأمور لغير أهلها فيحدث الانهيار والدمار والخراب والفساد وتعاني كثير من الشعوب وتنشغل المنظمات الدولية بمكافحة الفساد لأن الضمائر ماتت والخبرات انعدمت والعقاب أصبح نادراً لمن يستحق العقاب. وقد قال الرسول الكريم في حديث شريف «إنما هلك من كان قبلكم من الأمم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها». هذا هو الإسلام وهذا نموذجه، وليس ما نسمعه من فتاوى دينية أو سياسية أو اقتصادية أو حتى طبية تروج عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت لأداة إعلامية لتخريب الدول وتدميرها وإفساد الشعوب، ومن هنا أطلق على الحركات التي ظهرت في العالم لتغيير أنظمتها مصطلح «الربيع»، وهي ليست كذلك، بل هي حركات تم إعدادها في مكاتب أجهزة الاستخبارات العالمية وتم تدريب قياداتها على هذا النوع من العمل ومن ثم دمرت دولنا وظللنا نتباكى على القديم رغم عيوبه ونلوم الآخر ولا نلوم أنفسنا. ولذلك، يجب إصدار قانون في كل دولة لتحديد مواصفات من يتحدث في السياسة أو الدين أو القانون أو حتى السباكة والنجارة لأن الدول المتقدمة لا تسمح لأي شخص بممارسة مهنة دون تعليم ودون دراسة ودون علم. فالمباني تنهار والنفوس تفسد والعلوم تتراجع والدول والشعوب تتخلف.

وشكراً للكاتبة نجوى جناحي على إثارة هذا الموضوع المهم في مجال التخصص بدلاً من ترك الأمور كما يقال «سداح مداح». وأنا أدعوها وكل صاحب ضمير محب لوطنه أن يدعو بدعوتها للتخصص والتأهيل الصحيح لكل مهنة.