تعتبر المواطنة واحدة من أبرز آليات ترابط المجتمع وتماسكه، وهذا ما فعلته الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية، والدول الناهضة مثل ماليزيا وغيرهما، وعلى العكس فإن الدول التي دب فيها الخلاف والنزاع والصراع وغاب عنها التسامح والولاء قد باتت مطمعاً للقوى الدولية والإقليمية الراغبة في السيطرة والهيمنة.

تذكر الأدبيات العلمية في هذا المجال أن الخطاب الإعلامي المحترف والواعي الذي تبنته الدول التي أحرزت تقدماً في قضية المواطنة هو الذي اهتم بتأصيل ما اتفقت عليه الأمة وترك ما اختلفت حوله، ذلك الخطاب الذي يبرز الثوابت ويهمل الهوامش والعوارض ويعلي المصالح الوطنية ويهمل المنافع الذاتية، لأنه بذلك يسهم في تحقيق الانسجام الاجتماعي وتوحيد الأهداف والرؤى ويزيد الانتماء ويعلي قيم المواطنة الصالحة.

إن الإعلاميين أصحاب الرؤية والفكر هم الذين يسوقون لقيم المواطنة من خلال إبراز الواجبات والحقوق، وتعزيز قيم الولاء والانتماء لدى الكافة، فقيمة الانتماء هي قيمة محورية في إنتاج أي خطاب إعلامي حضاري سليم، وبالتالي يزيد من مناعة المجتمع ضد الأزمات التي يتعرض لها هذا المجتمع سواء أكانت أزمات وأحداث داخلية أو خارجية ومن هنا عمل الخطاب الإعلامي لسنوات خلت على تأكيد قضية المواطنة.

لقد أصبحت وسائل الإعلام والفضاء الافتراضي أهم إنجازات ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي يشهدها العالم، فالتطور المذهل لشبكة المعلومات الدولية «الإنترنت» وانتشار التقنيات الحديثة للاتصال، وتزايد تطبيقاتها في مجال الإعلام والاتصال، ساهم في ظهور نوع جديد من الاتصال، وهو الاتصال الإلكتروني، وترتب على ذلك ظهور جيل جديد لم يعد يتفاعل مع الإعلام التقليدي بقدر ما يتفاعل مع الإعلام الإلكتروني وهو ما يسمى بالجيل الشبكي أو جيل الإنترنت.

لذا أصبح الخطاب الإعلامي التقليدي والإلكتروني عاملاً حاسماً في تشكيل آراء الجماهير وهويتها السياسية والاجتماعية، وبات من المهم تسخير هذا الخطاب بكل روافده الرسمية والشعبية في خدمة قضايا الولاء والانتماء والهوية الوطنية بما يشكل في النهاية قضية المواطنة السليمة والحقيقة بعيداً عن الاختلافات بكل أنواعها.

فاستقراء التجارب العالمية ومن بينها تجربة الولايات المتحدة تشير إلى أن المكون السكاني لها ينتمي لخلفيات ثقافية وعرقية وجغرافية متعددة سواء من أوروبا أو آسيا أو أفريقيا أو غيرها إلا أنهم جميعاً ربطتهم المصلحة والانتماء للوطن، ووحدت بينهم بصرف النظر عن الاعتبارات الجغرافية التي تختزل الوطنية والولاء للوطن في الحيز الجغرافي الضيق، الذي قد لا يعبر أحياناً عن مخزون الولاء والوطنية.

ومن هنا فإن هذه الاعتبارات لا تؤثر في هويتهم وانتماءاتهم وحرصهم علي التفوق الأمريكي وسيادة العالم والسيطرة عليه اقتصادياً وسياسياً، والأمر نفسه في التجربة الماليزية التي أضحت نموذجاً للتفوق الاجتماعي والتقني والاقتصادي للعديد من التجارب التنموية في العالم، حيث نحت الأصول العرقية بعيداً وركزت علي النهضة الماليزية التي استطاعت في الثلاثين عاما الماضية أن تقدم نموذجاً عالمياً ليس فقط في الاقتصاد والتقنية والسياسة، إنما في الوطنية والانتماء أيضاً.

لذا، فتحليل مرتكزات الخطاب الإعلامي في الدول الناهضة التي حققت نجاحات كبيرة في قضية المواطنة يجعلنا ندرك أن هذه الدول قد عملت على توجيه اهتمامها الكامل لتربية مواطنيها ونشر الوعي بينهم بأهمية المواطنة، لإدراك هذا الخطاب أن المواطن الصالح هو رأس المال الاجتماعي الحقيقي في العملية التنموية بكل أبعادها، لأن المواطنة الفاعلة تستلزم توافر صفات أساسية في المواطن تجعل منه شخصية مؤثرة في الحياة العامة، والقدرة على المشاركة في السياسية واتخاذ القرارات.

والخلاصة أن تكامل الخطاب الإعلامي بكل أشكاله الإلكترونية والمسموعة والمرئية والمطبوعة يسهم في تعليم الجماهير قيم المواطنة وغرسها لديهم وحمايتهم من الأمواج العاتية التي تتعرض لها دول المنطقة، وذلك من خلال تبني المواطنين لقضية المواطنة باعتبار أن الفرد هو وسيلة التنمية المجتمعية وغياب قيم المواطنة يؤدي لانعدام القدرة على العطاء والمشاركة.

* أستاذ الإعلام وعلوم الاتصال