في مشهد يتكرر يومياً من خلال المناسبات الاجتماعية السعيدة منها والحزينة، كحفلات الزواج، وحفلات التخرج، وأعياد الميلاد، وحتى التعازي، تلك الطاولة الممتدة والتي تحمل على ظهرها أطباقاً متنوعة من المقبلات، والوجبات الرئيسة وأنواعاً من الحلويات والمشروبات، وغيرها، تلك الطاولة التي يسميها الناس «البوفيه»، حيث تمد هذه المائدة السخية إكراماً للمهنئات أو المعزيات بكرم حاتمي لا مثيل له. نعم قصدت اقتصار الأمر على تجمعات النساء فقط، فتجمعات الرجال تتسم بالبساطة وعدم المبالغة والتكلف في تقديم الأطعمة وإكرام ضيوفهم.

أما تجمعات النساء الاجتماعية فهي تزخر بما لذ وطاب من الأطعمة، والتي تقدم منذ دخول الضيفات، حتى خروجهن، والعجب كل العجب أن ربع هذه الكمية من الأطعمة تكفي لملء معدة الضيفات، وإذا سألت صاحبة الدعوة، لماذا وفرت باقي الكمية التي لا حاجة لها؟! تقول ببساطة «لكي نملأ العين»، أي أن كمية الطعام التي نحتاجها لملأ العين أضعافاً مضاعفة مقارنة بكمية الطعام التي تملأ المعدة، وإذا ما انتهى الحفل، وهمت المدعوات بالخروج من مكان الاحتفال، وأنت تسير بين طاولات البوفيه تجد الأطباق مازالت مليئة بالأطعمة رغم انتهاء الحفل، والجميع يعرف جيداً أن مصيرها أن ترمى في القمامة، نعم كميات وكميات مما لذ وطاب تلقى في القمامة في زمن تنتشر فيه المجاعات، في كل حدب وصوب، ونكاد نسمع أنين الجائعين، ينطلق من كل بقعة على خارطة الشرق، وإن حاولت عد الجياع الذين يبحثون عن الطعام في صفائح القمامة فلن تستطيع حصرهم. وتكمن المصيبة في أن البعض يتفاخر بحجم الفائض من الطعام الذي ألقي في القمامة. يا لهف نفسي، ويا خوفي من غضب المنعم الذي يفيض علينا بالنعم ونقابل ذلك الإحسان بنكران النعمة، أليس من الأجدر بنا أن نحفظها؟!

ونكمل المشهد حينما تتجول صاحبة الدعوة ببصرها على أرجاء تلك المائدة التي لا زالت تزخر بالأطعمة بعد خروج المدعوات وتقول: الحمد لله كان الطعام كافياً، وفي لحظة صحوة الضمير تجدها تقول: غفر الله لنا كل هذا الطعام سيلقى في القمامة فتكتفي أن ترضي ضميرها بأن تتمتم بكلمات الاستغفار فتطمئن إلى أن الله قد غفر لها هذا الفعل، لم تفكر كيف تستغل هذه المائدة، ولم يخطر ببالها أن تقدم هذا الطعام للجياع. فكل ما يشغل بالها هو: «ملء عيون ضيفاتها»، المهنئات أو المعزيات. مهلاً عزيزتي، لن تنالي مرادك، فضيفاتك العزيزات مشغولات في نهاية الحفل برصد التقصير في حفلتك التي بذلتي لأجل إرضائهن آلاف الدنانير ومقارنة حفلتك بحفلات الأخريات، وقديماً قالوا: رضا الناس غاية لا تدرك.

وفي مشهد آخر، تتكرر صحوة الضمير لدى البعض ويصرون على أن يأخذوا موقفاً ليصححوا خطأ تلك النساء فيتطوع البعض بتوفير سيارات بها ثلاجات لنقل الأطعمة الفائضة للمحتاجين ولك أن تتصور كم قيمة تلك السيارات وكم تكلف عملية نقل الأطعمة، والبعض ابتكر فكرة ذكية وهي وضع الثلاجات أمام المنازل ليحفظ فيها أهل الحي الأطعمة الفائضة ويستفيد منها المحتاجين، وبعض الشباب والشابات يتطوعون بحفظ هذه الأطعمة في حاويات بلاستيكية ونقلها بسياراتهم الخاصة للمحتاجين، مبالغ كبيرة وجهود ضخمة تبذل لحفظ الأطعمة الفائضة، المبالغة في إكرام الضيوف بتقديم كميات كبيرة من الطعام سلوك لا يقبله الجميع، وحلول عديدة طرحها كل من لديه إحساس بالمسؤولية تجاه هدر الطعام وكل من يدرك قيمة النعم التي أنعم الله بها علينا. ما أعجبك أيها المجتمع، تصنع المشكلة ثم تبتكر حلولاً لها! أليس من الأولى أن نبتكر طرقاً لإقناع تلك السيدات المسرفات بخطأهن؟! أليس من الأولى طرح مقترحات بديلة ترضي غرور السيدات وتجنبهن هدر الطعام؟! أليس من الأولى أن نغير تلك العادات العقيمة؟!

وهنا نتساءل لماذا نصر على نظام «البوفيه»، في تقديم الضيافة؟! لماذا لا نغير هذه الطريقة المسرفة ونكتفي بتقديم كمية من الطعام في طبق أنيق تكفي لملء معدة إنسان؟! لماذا نصر على تقديم كميات متنوعة من الطعام؟! لم لا نكتفي بثلاثة أو أربعة أنواع؟! ألا تذكرون ولائم أيام زمان عندما كان الناس يقدمون لضيوفهم الأرز فقط «الغوزي»، ويخرج الجميع راضياً قانعاً سعيداً، لعمري أن المشكلة تكمن في صدورنا، وهنا اذكر قول الشاعر:

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لزماننا عيب سوانا

سيداتي آنساتي.. أعلم أن ما أقوله يتعذر علينا جميعاً تطبيقه فجميعنا نخشى نقد المدعوات إن قللنا كميات أو أنواع الطعام المقدم وغيرنا طريقة «البوفيه»، لكنني سأوجه ندائي للأسر المنتجة اللاتي يبدعن في إنتاج طبخات تقدم بشكل مبدع فمنها يقدم في علب أنيقة، أو أواني شعبية جميلة وبكميات معقولة، تلك فرصتكن فبادر بالتفكير في مشروع تقديم ضيافة للحفلات بشكل مبدع وبكميات معقولة، وأقول لكن ختاما من تجرؤ منكن على تعليق الجرس في رقبة القط، فنغير هذا السلوك؟