«ليسوا مثلنا، هم لا يشبهوننا، ليسوا عرباً ولا مسلمين، حتى أشكالهم تختلف عن أشكالنا، إنكِ إذا اتجهت جنوباً، سترين بنفسك كم هو الوضع مختلف وغريب تماماً عن الشمال، كان لا بد أن ننفصل وقد تأخر قرار الانفصال كثيراً ودفعنا نحن في الشمال ثمنه قاسياً». هكذا فاجأني أحد الشعراء السودانيين الذي التقيته في مناسبة أدبية في بلد عربي، وهو يجيب عن تساؤلاتي الحزينة حول قضية انفصال جنوب السودان، وعجبت حينها كيف يتبنى المثقف العربي ثيمات غير واقعية لتبرير قرار مصيري سيكون واحداً من أخطر قرارات العرب في القرن الحادي والعشرين.

«لست يمنياً. أنا هاشمي من الجنوب العربي. نحن لسنا يمنيين نحن عرب الجنوب. قبائلنا تختلف عن القبائل اليمنية. تاريخنا يختلف. عاداتنا تختلف. ثقافتنا تختلف. سننفصل ونستعيد دولتنا التي احتلها اليمنيون». هذا تعليق وجدته في الدردشة على الخاص في حسابي بموقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، من أحد الحسابات بالاسم المستعار «الجنوب العربي». وهو تعليق يكشف، للمطلع على الصراع في اليمن، كيف تصنع الهويات بما يخدم أجندات الصراع وبما يضمن تفرع صراعات جديدة بعد الفراغ من الصراعات القديمة.

«هذه ليست أراضيهم ولا بلادهم، جاؤونا فارين من القتل والاضطهاد العثماني قبل تسعين عاماً، استضفناهم وأكرمناهم وقاسمناهم الخبز والمسكن والهواء، فاستوطنوا وتكاثروا كإخوان لنا، واليوم يحتلون ثرواتنا ويطردوننا من مناطقنا ويريدون اقتطاع جزء تاريخي من أراضينا ليقيموا لهم وطناً قومياً خالصاً بالتحالف مع إسرائيل مكتسبين شرعيتهم وقوتهم كخنجر وظيفي لصالح إسرائيل». هذا ما ساقته بعض التحليلات الانفعالية لأصل الصراع الكردي العربي الذي تصاعد رداً على تنفيذ استفتاء استقلال كردستان العراق وإعلان استقلالها من جانب واحد. وهو صراع يمتزج فيه الأنثربولوجي والتاريخي والقومي مع تعدد الصراعات الإقليمية الراهنة حيث تسعى جميع الأحزاب السياسية في العراق، تحديداً، لتحقيق مصالحها الذاتية عبر التحالفات مع الدول المتجاورة، متجاوزة المصلحة الوطنية.

هذه الآراء والحوارات تعكس أزمة الهوية في البلدان العربية التي توزعت مشكلاتها بين الإثنية والتاريخية والطائفية والقبلية، وهو دليل دامغ على فشل الدول الحديثة في استيعاب قضية المواطنة المؤسسة على مفاهيم العدالة والمساواة و«الحق». وليس الحل والحال هكذا وقد نجحت بعض الهويات الفرعية في مسيرة نضالها من إثبات وجودها واكتساب جزء مما تراه حقها، ليس الحل أن نعيد بعث الشعارات القديمة والمشاريع السابقة المرهونة بلحظات صراعات تاريخية انتهت وبدأنا مرحلة صراعات جديدة داخلية وخارجية. الحل بإعادة النظر في مقولات الهوية القديمة ودراسة تداعياتها على بعض مكونات الدول العربية ومظاهر استثمار القوى الخارجية المعادية لتلك التداعيات في تحقيق مشاريعها الخاصة. والوصول لبناء ثقافي وسياسي واقتصادي جامع قادر على استيعاب الجميع تحت مفهوم «الحق» بعيداً عن مفهوم «التغلب». بما يحفظ الامتداد التاريخي الكبير للجغرافيا العربية ويعيد متانة ما اهترأ من العلاقات السياسية والاجتماعية بين تلك البلدان.

عدا ذلك لن تنفع المكابرة، ولا مناص من أن ينطلق كل عام «قوم»، في هذه الجغرافيا كالأكراد ينظمون استفتاء لتقرير المصير ويعلنون الانفصال من جانب واحد، لتتحرك بعدها الدبابات ونستأنف مشوار الحروب طويل الأمد في الوطن «العربي».